الفصل العاشر

الفصل العاشر

ومرت الأيام .
وبداء واضحا على طاهر انه زهد كل شئ..واصبح يركز على الدراسة وكان دائما ممسكا بكتاب ..واذا ترك الكتاب يبدله بالطورية ..الطورية والكتاب ..ماهى العلاقة بين الطورية والكتاب ..مثل علاقة العبد بسيده ..انحناءة فى الظهر وإرهاق مزمن ..
اصبح لاهم له سوى معاونة والده ..لذلك كان كثير الذهاب إلى الحقل ..
ويبدوا أن سلمى أحست بذلك ..وبداءت الحيرة تكسو نظراتها وأثار السهاد بادية عليها ..ارق الليالى بان على العيون الفاتنة والنظرات الشاردة تمتد شرقا وغربا فى الحقول الشاسعة
وفى ذات يوم لم يحضر محمود الى المدرسة ..
كان طاهر جالسا فى البص المربع الذى كتبت عليه إدارة مشروع الجزيرة بالسودان وكان البص خاليا فى انتظار الركاب وطاهر فى جلسته تلك دخلت عليه مروة بعد ما سلمت عليه وجلست
مروة : طاهر أنت ماطبيعى ..وزياراتك مقطوعة ..وصحتك تعبانة ..تبدو مثل الرجل العجوز أو أنت مريض .
طاهر : أبدا ..الحمد لله أنا بخير فقط المشاغل ..
مروة : لا أظن المشاغل تبعدك عنا وأنت عارف معزتك عندنا ..
أحس طاهر أن مروة قالت المقطع الأخير برنة غريبة لكنه لم يكترث ..
طاهر : أين محمود ..
مروة : محمود سافر الشمالية ..
طاهر : بالله ..لماذا لم يخبرنى ..أخيرا تذكر أهله لكن الدراسة .؟
مروة : آمر ضرورى يخص والدى ..غدا الجمعة وسوف يحضر يوم السبت ..آما لماذا لم يخبرك فهذا لانك لم تحضر ..عامل تقيل ..
طاهر : معليش يامروة أنا سف
مروة : هل ستزورنا الليلة ..؟
طاهر : احتمال ..وصمت

63


كسر صمته وصول الطلاب الواحد تلو الآخر ..
جلس طاهر فى الطرف القصى من البص بجانب النافذة وسرح فى البعيد
هل ازورهم ومحمود غائب ……. طبعا الحالة واحدة لكن ..لا أظن إن هناك مايمنع ذلك مروة مثل أختي فعلا مثل أختي ولو إن لى آخت فى مثل سنها لا اظننى أجد منها مثل هذه المودة والاخوية الصادقة ..ولكن من الأفضل ومن ناحية الأصول أن لا اذهب حتى يحضر محمود ..
وتحرك البص ..لاحظ طاهر ان بدوى يجلس مباشرة خلف سلمى هى على النافذة وهو ايضا خلفها على النافذة والاثنان ينظران الى الطريق والى الحقول ..لكنه لم يكترث ..
عند الكبرى نزل الجميع .اولاد القرية ..سار طاهر فى شمس حار ة يضع شنطة كتبه على راسه مثل بائعة تضع طبق الفول السوادانى على راسها ..وبدوى ومجموعة من الاولاد يسيرون من خلفه فى تثاقل ..فى لهيب شمس صيفية حارة ..
وصل طاهر مبكرا تناول غدائه وخرج الى القطن مع والده فاليوم لديهم عبار ( كبس قطن )
فى الكمبو القريب من القرية كان يسكن عمال اللقيط مجموعات من القبائل الكردفانية يحضرون فى مواسيم لقيط القطن يأتون باللوارى فى مجموعات وعند نهاية اللقيط يرجعون ايضا باللوارى الى ديارهم عندما وصل طاهر الحقل نظر الى جبال القطن البيضاء التى تكومت مثل الجليد الابيض الناصع .. موضوعة فى قطعة ارض مربعة طولها خمسة فى خمسة امتار تسمى ( التقة ) تنظف وتترك خالية من عيدان القطن ..فى طرفها حفر طاهر حفرة ليوضع عليها الجوال اثناء الكبس ..فتح دفتره وبداء يشخبط فيه وهو فى انتظار العمال ..حضر العمال وهم ينشدون اغنية كردفانية بصوت كورالى عبارتها ملئة بالحنين والشجن ..
احس طاهر بعزوبة اللحن وبداء يسترق السمع ..فى ذلك الوقت كان والده يحضر لفتح الماء فى حقل القطن عندما وصل العمال كانوا خليط من الرجال والنساء ..مجموعة من البنات لاتخلو ملامحهن من الحسن و الجمال ذلك الجمال الذى تجور عليه الطبيعة ونوائب الدهر وفقر الجيوب ..والشقاء فى طلب الرزق … ان جمال الفقراء مثل الزهرة البرية تنجو بأعجوبة من غدر الطبيعة ..وتعيش كما يحلو لها ..
الفقر لعن الله الفقر احيانا يكون سببا من اسباب زوال الجمال ..والجمال نعمة والفقر يقتال كل
64


الاشياء الجميلة .الفقر يقتال جمال النفوس بالانكسار والحوجة ..يقتال الشرف والكرم وراحة
البال ... بنظرة متأملة بسيطة تجد بيوت الفقراء البسيطة المهدمة مستباحة بالنظرات الماكرة المتلصصة التى تنتهك الحرومات بالنظرة المحرمة فى حين تجد بيوت الأغنياء محصنة ضد نظرات المتطفلين والعابثين ..
فرد طاهر جوالات القطن العريضة الواسعة واخذ كل واحد منهم جوال وبداو يضعون القطن عليه ..اثرت انتباهه واحدة منهن كانت جميلة كانت جميلة ذلك الجمال المرح ..عيونها الواسعة مظهر من مظاهر الثورة المكبوتة ..التمرد والعناد كان واضحا عليها برغم من انها كانت كثيرة الضحك سمرتها الكردفانية مثل العسل الاصلى النقى ..الجسم الفائر ينطق بالاثارة والاغراء ..الصدر البكر يضيق زرعا بالفستان الاصفر ( فستان تيريفيرا ) والفتحة ترسم مثلث برمودا ..والشعر مسائر تنسدل بأهمال ..مجعد بشىء مثل الزيت وربما سمن يشكل طبقة فولازية لايمكن إختراقها ..وشيئا مثل الشلخ على الخد وربما وشم يميل للخدرة ..والارجل المرهقة تعانى من أثار مسوح الزيت الذى يقى من برد الشتاء ويمنع شقوق الدم ..
كان طاهر يحمل قلما ودفتر صغير كانت الطريقة التى تسجل بها الحسابات هى ان تكتب اسماء العمال فى لستة طويلة وكل مايعبر لاحدهم قفة يسجل له خط عمودى امام اسمه ليدل على واحد قفة وهكذا حتى ينتهى العبار
والعبار يكون بواسطة شنكل ميزان بزمبلك يوضح الجانب الاول خط عند ظهوره يعلن قفة والجانب الاخر خط عند ظهوره يكون مقسما الى وحدات تبين تدرج الارطال ..
وبداء العبار ..
وبداء طاهر عملية التسجيل وكان متشوقا لمعرفة اسم تلك البنت التى اثارت اهتمامه ..
وعندما اتى اسمها عرف انها قمرة ..
طاهر : اسمك قمرة .؟
قمرة : اى قمرة ..
طاهر : فعلا قمرة ..
قمرة : الله لايصيبك ..
وذهبت القمرة لمواصلة العبار واستمر الليل ..ولاحظ طاهر انها بداءت تتجاوب مع نظراته
65


..واحس بنبع الحياة فى العيون الجميلة ..ضعف الانثى غريزى تجاه النظرات الملتهبة والمديح لحسنها وجمالها ..المديح وحده كفيل بدك حصون أعتى الفتيات رزانة ...وهذا مايفسر المفارقات الكثيرة فى العلاقات الغرامية ..عندما تجد البنت تغرم بالشخص المتواضع فى إمكانياتهه على حساب الغنى بكل الأشياء ..الألفة الروحية ليس لها منطق ..
كانوا يعبرون القفة وتحمل الى الكباس والكباس كان رجلا منهم يناولونه القطن المعبور وهو يضع القطن داخل الجوال وقعر الجوال على تلك الحفرة التى حفرها حتى لايقع الكباس على الارض ..
واستمر العمل وسط جو مشحون بالتراتيل الكردفانية بينما كان والده يراقب العمال ويقوم بألتقاط قطع القطن الطائرة مابين اكوام القطن يسمى الساقط فى عملية نظافة التقة ..
وطاهر يسجل الاسماء وعيونه تتابع القمر … وفى صفحة اخرى من صفحات الدفتر كان يرسمه فى ليلة كماله ..قفة بعدها قفة ..ويمتلى جوال بعده جوال ..
بعد نهاية العبار قام طاهر باحصاء عدد القفاف ثم عدد الجوالات وحتى الارطال ..
انتهى يوم مشحون وبداء ينصرفون ..والانغام الكردفانية تصاحب انصرافهم … لمح نظرة وداع القمرة وهى تتجه نحو السحاب بادلها بمثلها ..وبداء الظلام يسدل الستار ..
تمدد طاهر على جوال القطن المكبوس قليلا ..شىء مريح التمدد على جوال القطن المكبوس ..تفكر فى الأمر فوجد أنه فى النهاية لحاف أو مرتبة مجيهة ..ثم قام واحضر حجر بطارية جاف وافرق مابداخله فى اناء ثم صب عليه الماء واحضر مسواك قديم ..وبداء عملية التمريك ..وهى كتابة حروف انجليزية توضح رقم الحواشة ونمرة المكتب ..
رفع راسه من على الجوال ..راى قمرة تمشى خطوطتين وتلتفت خلفها …
قد نلتقى احيانا ببعض الناس فى ظروف مثل هذه الظروف فى زمن وجيز وربما ساعات تلتقى العيون فتنسج قصة قصيرة وربما رواية مكتملة الفصول ويكون هناك حوار من غير ان تنطق الشفاه شيئا ..أحاسيس جميلة مؤقتة يعيشها أثنان على قفلة من الزمن وقوانينه ..يحدث هذا كثيرا انها لغة العيون ..اللغة الوحيدة التى ليس لها قواعد نحوية جافة او اعراب او معاجم ..هى تعابير محسوسة فقط ولاتكتب واذا اردنا ترجمتها فأن الترجمة تخل بالمعنى الاصلى ..لان البشر اعتادوا على اخفاء الاصل من المشاعر ..تلك هى المشاعر الطيارى ولقاءات الصدف ..
حمل طاهر دفتره والشمس قرص اصفر ..نصفه تحت الارض والاخر خارج الارض ..هنا القسمة
66

عادلة بين عالمين متناقضين غرب مادى شديد البرودة .. غرب ظالم ..وشرق روحى مشحون بالحراة ..فيه شيئا من الإنسانية ..ماهى العلاقة بين البرد والظلم ..لماذا البرد ظلام
احس طاهر بمسامه تتفتح رائحة الزرع مع جو المغيب مع رائحة النبات المروى منظومة اعادت توازنه فاحس بالراحة والنشوة فى عامة الأحوال العودة من الحقول لها طعم خاص ..شىء ليس له شبيه ..ربما يكون طعمه مثل عودة المحارب من المعركة مكلل بالنصر ..أستبعد ذلك الشبه لأن نهاية المعارك ملطخة بالدماء ولكن العودة من الحقول مشبعة بالرضى والسرور ورائحة الزرع ..نسمة عابرة تحمل روح اشهر الربيع .حملة معها نقم كردفانى اتى من الجهة التى ذهب اليها العمال ..مثل هؤلاء القوم يعانون فى طلب الرزق ..نساءهم ورجالهم وفتياتهم الحسان تخربش اجسادهم البكرة عيدان

القطن و( الكركعوب ) والقش اليابس ..حياة العمل الجماعى (النفير) عامة حياة ممتعة برقم المشقة والجهد المبزل فيها ..تجهد النكات المصنوعة من المواقف الحية وايضا مصاعب لا حصر لها
ولكن برقم ذلك يبتسمون للحياة ..حياتهم كرنفال من الضحك والغناء والنفير والتعاون المستمر برقم كل معانات الفقر وعزاب العيش تراهم يبتسمون ..
هم احباب الفيتورى …
دنيا لايملكها من يملكها ….
اغنى اهليها سادتها الفقراء……..
العاقل من يأخذ منها ماتعطيه على استحياء …….
والغافل من ظن الأشياء هى الأشياء ……….
لله درك ايها الشاعر الاسمر ..

القطار الأخضر

[b]
القطار الأخضر