الفصل الرابع والعشرون
ومرت الايام
واصبحت بالنسبة لطاهر ليلها كنهارها وبداء الإعتلال واضحا على صحته ..نضب عوده واياديه القوية أصبحت أعواد دقيقة مثل أعواد المسواك ..نافرة العروق والجسد الرياضى والعضلات التى تحسب أنطمست معالمها ..وجهه تشرب بصفرة فاقعة وقارة عيونه ..شعره المجعد تكوم فى الجزء الأمامى من رأسه من يراه يظن بأنه ميت ...هو كان يحس بكل ذلك لكن عقله كان موجودا ..ويعمل مثل الساعة يجوب كل المناطق ويتذكر كل المواقف من يرى السرير يظن بأن لا أحد فيه وإذا رأى شيئا يظنه طفلا رضيع
ولكن الذى يرقد على السرير ليس طفلا ..أنه طاهر الذى ملاءة هذه الدار مرحا وحنانا ذات يوم لذلك اصبحت الدار حزينة هادئة تطوى نفسها على حزنها فلا يحس بها احد سعاد تلازمه وسعدية تقضى له حاجاته أنتهت حبوب التيفويد لكن التيفويد لم ينتهى ..
فى مساء أحد الايام احضر له والده عربةكارو وذهب به إلى المدينة القرية وذهبا إلى المستشفى الريفى ومعهم المساعد الطبى ذو الشارب الطويل الذى يشبه الجزارين
بعد الفحص والمعاينة كتبوا له ورقة يحول إلى الخرطوم
بعيون ذائقة قراءة طاهر ورقة التحويل فقراءة فيها (لعناية مستشفى المناطق الحارة – امدرمان) أغمض عينيه وبداءة يحس بالفجيعة ..لقد أتت النهاية ..
الخرطوم أمدرمان – مستشفى المناطق الحارة
مستشفى المناطق الحارة كفيل بترجمة كل المتاعب ..إذن لقد وضح الأمر ..مستشفى المناطق الحارة يعنى إنها البلهارسيا ...بل بلهارسيا مذمنة ..كشكول امراض بلهارسيا ملاريا تيفويد وياعالم ماذا ايضا
الأن الكرة فى ملعب البلهارسيا يبدوا أن امرها قد أستفحل ولابد من مراجعة الأطباء هناك
حركة الكارو الرتيبة وطاهر مستلقى على ظهره تبعث الخدر فى الأوصال ..إحساس الغيبوبة أحس بأنه مثل الجنازة تهتز فقط مع حركة ومطبات الطريق ولا حولة له على الحركة
عندما وصلو غلى البيت طلب طاهر من صاحب الكارو أن يذهب إلى محمود فى مكتب الغيط ويخبره بالحاصل ويطلب منه ان يحضر مبكرا للذهاب إلى الخرطوم
إذن غدا سنسافر
دخل طاهر إلى الغرفة الأمامية وتوجه الوالد الذى بداء عليه الحزن إلى الغرفة الخلفية لغخبار الوالدة وأنصرف المساعد الطبى وهو ياكل فى قصبة سكر ةيتابط بطيخة كبيرة
حدق طاهر فى سقف الغرفة للمرة المليون
خمسة اعواد من حطب السنط واثنان وسبعون قناية ..وجوالات ملح بيضاء وبالطبع من فوقها التراب
130
الهم فى صدرى والمغص فى أحشائىوأضلعى ..هذا المغص يشتد مع ملوحة الحياة الأخبار السيئة تزيد هذا المغص
علاقة غريبة مابين النفس والبدن ...درجات السلم تتابع بدرجة مذهلة
إذن هو ذلك المقص الذى كان ينتابنى منذ سنين
ولكن حتى لو اخذت العلاج كانت ستعود مرة أخرى ...أمراض التخلف أكيد اى مواطن مصاب بهذه البلهارسيا اللعينة ..هناك من تعالج منها مرة ومرتين وهناك من لم يتعالج وهناك من يتركها ترتع فى جسده مدى الحياة ..أحدث علاج لها هو الحقنة الواحدة تسبب مقص قليل لكنها شافية ومريحة ..
الخرطوم
لم اذهب لها إلا مرة واحدة لإستخراج شهادة الميلاد ..وهاأنذا أذهب لها مرة اخرى ربما لإستخراج شهادة الوفاة
كان ظنى أننى ساذهب دارسا فى الجامعة ..أرتاد المسارح والمنتديات والمحاضرات ..المسرح عشقى الأزلى كنت أمنى نفسى بأن أتزود منه بأجمل العروض ..واحاضر عن الريف عن حوجة الريف للتنمية ..عن المرض والتخلف وعن حوجة الفلاح البسيط
حوجته البسيطة إلى العدل فى الأشياء ..فى المرافق والخدمات ..نصيبه فى القسمة نصيبه فى (الكيكة )
كنت اريد ان اقول لهم ان مشكلة الزدحام السكانى التى تعانون منها والهجرة إليكم سببها يسيط جدا وهى أن توفروا الخدمات الضرورية لهولاء البسطاء الذين يزحمون عليكم المركبات العامة ويتمسحون بجران منازلكم الفاخرة ويقاسمونكم قطعة الخبز وصحن الفول ..
كنت اود أن اقول لهم ان سبب هذا التكدس هو إنعدام التنمية فى الريف ..لو أنكم وفرتم لهم العلاج فى مكانهم والتعليم الأولى فى مكانهم والماء الصافى فى مكانهم والنور الأبيض فى مكانهم لأنصرفوا عنكم وتركوكم تستنشقون عوادم عرباتكم الفارهة ولوفروا عليكم كمية الهواء البسيط التى تمر مابين غابات الأسمنت ولكن هاانذا أذهب إليهم وأنا أحمل الهم والمرض فمن يستمع لكلام المريض
غدا ساذهب
غدا ستحط قدماى على ارض حفيدة كاهن المطر ...تلك السندرلا التى اختفت فى منتصف العمر وقبله بربع الساعة ولم تترك حتى فردة حذاءها ...ذهبت واختفت فى زحام المدينة وهى لا تدرى بأن الأمير سيخلع عنه تاج الملك وسيغادر غلى عالم أخر
ذهبت قبل أن تدرى أن النبتة التى زرعتها فى برارى الجزيرة البكرة أصابها الزبول من إنعدام الماء وكانت الزهرة فى غنتظار الحفيدة لتبدى دلالها على جدها العجوز فيفعل الكجور وينزل المطر
ذهبت حقيدة كاهن المطر بعدما امتصت رحيق شبابى ..تركت القليل لتقتات منه البلهارسيا وأنثى الأنوفلس ...غريبة فى الملاريا الذى يسبب المرض هى انثى الأنوفلس وليس الذكر ..الذكر المسكين يتغذى على رحيق النبات وهى تمتص الدماء ..
نحن ضحايا الإناث حتى فى المرض
الثالوث الخطير الذى يشكل الحياة هو ثلاثة ميمات المراة والمال والمجد
أهلى ضحايا المجد والسلطة ..والباقى من نصيب راس المال ..وهاهى المراة تحتل مكانها فى هذه الأرض التى كان يحكمها الرجل ...أنه عالم المراة ..أمبراطورية المراة قادمة أفسحوا المجال
ولكن
لابد من سير القطار ..لابد من سير القطار حتى لو جعلنا ظهورنا سكك حديد يسير عليها لابد من سيره حتى لو جعلنا دمائنا وقودا له ..أن الدخان الذى يتصاعد منه هى أنفاثنا ..هو الضحوة (كربت) وماء التبريد ...ماء اللديتر هو عرق الظهيرة ..
لن نرهنه أو نبيعه هذا القطار العتيق هو حياتنا هو قضيتنا ..ومن ليس له قضية ليس له حياة
مر الوقت سريعا وهو يتأمل ولم يدرى ماهو الوقت الذى قضاه تنبه لصوت الوالدة وهى تخاطبه
- هل غدا سنسافر
- نعم ياوالدة
- لكن ياطاهر أنت تعرف أنه
- أنا اعرف أن الدار ليس فيها مانسافر به
- هناك القليل
- بيعوا شيئا من القمح والعيش
- هناك القليل
- أظن أن محمود سيكون معه شيئا
- تعب معنا كثيرا
- أنه صديق ونعم الإختيار
- هل تريد ان تأكل شيئا
- لا لا
لا أدرى لماذا لا استسيق الطعام ...برقم حوجة المريض للطعام إلا ان النفس ترفضه ذلك هو اللوبى الذى يحكمنا
خرجت الوالدة وتركته لعزابه
الليل والعزاب والسهر ...الليل أصبح ليلين ...والنجوم تلمع بعيد ...تسخر من السهران وحيد وعيون طاهر تلمع فى الظلام ..وتبحث عن كنز مفقود ...وسيظل ابدا مفقود
132
موضوع: الفصل الرابع والعشرون 
الأربعاء يناير 27, 2010 2:20 pm
