قرأ لزوجته الصحفية والكاتبة في آخر الليل، جريمة عامل المصنع، ذلك الفنيّ الناجح الذي استطاع بكدّه وجهده واجتهاده ونجاحاته التي كانت محل إشادة المسؤولين أن يرفع أسرته الصغيرة إلى مستوى معقول في حياة المدينة العربية الغول، واستطاع أن يشتري شقة صغيرة ويقوم بتأثيثها وفي قمة فرحته بتجهيز ابنته العروسة الحلوة جاءت الخصخصة وطردوه مع الآلاف بعد أن ناولوه «ملاليم» الخدمة والباي باي القاتل كما يقول شراهة خان الخليلي، وفي أشهر مع ضغط الحياة وفي أتون البحث عن بدايات جديدة، انتهي كل شئ وعاد الفني ابن الخمسين عاطلاً وفقيرا ويائساً. وظل كل شهر يؤخر زفاف ابنته للشهر القادم حتي أصبح التأجيل يدخل في عداد السنوات، وما بين حصار الحياة وبؤس التبطل وشقاء الفقر وجحود المدينة، فتحت عليه زوجته نار غضبها وصبت عليه وابل حقدها وهي تراه لا يستطيع أن يفعل شيئاً أي شئ يجعل عجلات الحراك اليومي تدور. وتواصل المرأة حريقها المتوالي ويا ويل الفقير العاجز من لسان امرأة لتحتمل ضيق ذات اليد. وزاد الطين بلة أن نصيبه الصغير من ورثة والده لم يستطع أن يناله لأن أخاه الأكبر المشتري أصبح يماطل ويماطل وظل هو رغم العوز يستحي أن يضيق علي أخيه الأكبر لما يكفي أن يصبح حديث الناس..
< وبدأت الزوجة مرحلة جديدة ونوعية من النقاش فقد أدخلته في دائرة الشتيمة المقزعة والنيل من سويداء الرجولة والكرامة والعامل المسكين يصمت وهو يتقطع ألماً ولا يملك رداً علي سيلها المدمدم من الألفاظ والهجائيات النسائية التي تجيدها نساء تلك الحارات وهي لحدّتها ومضائها ولؤمها تدخل في باب أدب النقائض كما كان يقول الدكتور زكي مبارك عليه الرحمة، حاول أيضاً أن يستنجد بثقافته النقابية حاول أن يشرح لها سوءات النظام الاقتصادي الجديد وسوءات الخصخصة وحريق القطاع الخاص صاحب الشح الكبير والنجاح الفرداني الذي تشكل الأرباح جنانه وبشرته.
حاول المسكين أن يدين الانفتاح والرأسمالية وان يدين أيضاً الاشتراكية التي أصبحت مجرد شعارات والعدالة الاجتماعية التي أصبحت عند الإسلاميين مجرد أحاديث لا تغادر المساجد ولا تطمع أن تناطح السلطان دعك من أمريكا.
وليته لم يفعل فإنه ما كاد أن ينتهي من مرافعته الصغيرة المجزوءة الألفاظ الحائرة الرؤى حتى قبضت بتلابيبه وادعت أن كل ما جاءهم من نحس وعُسر هي وبناتها كان بسبب هذه الادعاءات الفارغة والكلمات المزجاة التي لا تسمن ولا تغني من جوع..
حاول أن يستنجد بالدين والإيمان والثوابت والصبر والابتلاء وسير الصالحين والأنبياء من أيوب حتى الحسين، فلم تشفع له وإنما زادت الحملة استعاراً.
جرّب معها حرب الصمت فلم يفد، وجرب بعده الصراخ فلم يجد فتيلا، وأصبح يتجول رابعة نهاره في المناطق الصناعية ليسأل عن فرصة للعمل، فتضحك في وجهه ساخرة المصنوعات الآسيوية الرخيصة الثمن تضحك في وجه مصانع القطاع العام الكبري التي تحولت إلي مخازن وجمالونات لتخزين الخردة فقط مساحاتها التي أصبحت تستقطب مشروعات الفندقة والمراقص والبوتيكات..
< وفي ليلة عصيبة دخل منزله فلم يسأل عن خبز أو ماء أو ندى أو حتى كلمة طيبة، فقط تكوّم في آخر غرفة قصية واستدار علي نفسه ونام مظهراً ومات ألف مرة جوهراً. ولكن هيهات أن تتركه ليواجه نفسه ومأساته حيث أصبحت الوحدة كل حلمه انقضت عليه كالكلبة المسعورة وهي تري الحزن ينهش عيني ابنتها الجميلتين، ورغم المرارة فقد كان يجد لها العذر ويقول لنفسه معزياً وهل تملك النساء في لحظات الضعف غير الصراخ والدموع.
ولكن يبدو أنها في تلك الليلة قد تجاوزت كل المسموح به في قلب الرجل من احتمال.. إنها لم تكن تشتمه وتهينه فقط بل إنها كانت تدفعه دفعاً لوضع حد فاصل ونهائي لهذه التراجيديا اليومية وقد نجحت فعلا هذه المرة ان تجرح كل ما في رجولته من أنفة وكل ما في روحه من فضائل.
< لقد استطاعت أن «تحرق دمه» كما يقول العامة وتجعل أعصابه في حدة أسلاك الرباب وهو يعوي حزناً في ليالي الريف، وفي منتهى نقطة اللاعودة والتي هي مزيج ما بين الحزن والغضب واليأس والحقد واحتقار الذات، نهض طائراً كحيوان جريح لا يلوي علي شئ حتي أمسك بسكين المطبخ وامسك بزوجته وفي أقل من ثوان فقط صارت شريكة حياته شريكة للسكين في تلك اللحظات المجنونة، وفي دقائق معدودة انتهي كل شئ فقد مزقها بقسوة حتي رأي روحها المعذبة تصعد وعذاباتها وصراخها المكتوم وكانت المفاجأة أن ألقت ابنتها العروسة نفسها علي أمها تحميها ويا للهول فقد نالت نفس المصير، وبعدها بدقائق أصبح الشارع كله يبحلق في «الصنايعي » المستور وقد تحول إلي ضبع كاسر وهو يعدو في الشارع صوب اقرب مركز للشرطة ليسلم نفسه، لم يستغرق التحقيق طويلاً ، لان الاعتراف كان في السكين والدم والاعتراف والكلمات الحراب وعذابات الروح والعروق العقيمة وصدمات الأصابع القفر.
انتهي كل شئ حيث ينتظر «الصنايعي» مصيره المحتوم ليعاقب علي قتل أسرته ونفسه وتاريخه وداره الفانية وداره الآنية بالنار والعذاب وسوء المصير.
وعندما أكمل الرواية الحكاية على زوجته الكاتبة كان الخيط الأبيض والأسود من الفجر يتصارعان.. صمت الزوجان حزناً بعد إكمال الحكاية العربية المخيفة وعندما طال الصمت وستر الليل الدامع، سألها في همس حائر: هل ما قرأناه وحملته الصحف والمجلات والمجالس من وقائع جريمة اجتماعية أم جريمة اقتصادية أم جريمة سياسية؟!!
عاودت الصمت.. وظل التساؤل الحائر بلا إجابة لأنه جزء من نسيج هذه الأمة التي لم تجد آلاف الإجابات لآلاف الأسئلة الحائرة مع أنها أنجبت أصلاً لتكـون منبعاً وشلالاً لإطفاء حرائق التساؤلات!!