رقم 104
لن أعيش فى جلباب أبى
فى لحظة بوح نادرة قال بصوت مسموع
كنا ولدان ..
حسن وحسين ...لم نكن تؤم ..ولكننا أشقاء مثل التؤم ...
والدانا معلمان فى المرحلة الإبتدائية ..نموزج محترم لمعلمين الزمن الجميل ..أخلاق وعلم وإستقامة وطيبة بين الناس ...والدى كان خريج بخت الرضاء يوم أن كانت بخت الرضاء أرفع الدرجات العلمية ..ووالدتتى خريجة ثاتوى ..
تربينا على الحب والصدق والصراحة والتفاهم والإحترام ....ولكن نحن فى النهاية مثل كل البشر خطاؤؤن ...وتوابون ...وفينا أيضا من الضعف البشرى وقليلا من الغيرة بين الأخوان ...الغيرة الطبيعية حيث أن كل فرد فى الأسرة يحب أن يكون هو المحبوب من والديه ...ولكن حتى ذلك كان بمقدار ...ولكنه موجود ...
تنقلنا معهم فى كل ولايات السودان من السافنا الفقيرة إلى الغنية ...وتشربنا بثقافة هذا البلد الطيب من أقصى الجنوب لأقصى الشمال كان أعز مايملك والدى مكتبة ضخمة تحوى أعظم الكتب والمؤلفات العربية والعالمية ...فى شتى مجالات العلم وخصوصا الأدب بنوعيه الأدبى الشرقى والأدب الغربى ..
وكان والدى يعتز بتلك المكتبة ..بل ويفاخر بها ..ومن صغرنا شجعنا على المذاكرة والإضلاع وقراءة المفيد فى بطون أمهات الكتب ...
كنا أسرة متدينة مستقيمة ..التعليم المبكر الذى ناله والدى جعل بيتنا مرتبا نظيفا (نظام إنجليزى بحت ) ...أوقاتنا منظمة بين العبادة والقراءة الأكاديمية وقراءة كتب الثقافة بشتى أنواعها ...
أخى حسن كان يميل إلى قراءة السيرة الإسلامية وكتب الفقه والفلاسفة والمفكرين العرب وكتب التفاسير ونوعا ما يميل إلى العقاد وطه حسين والمازنى...بينما كنت أميل إلى قراءة الشعر والأدب الحديث والأدب المعاصر ..كانت تستهوينى المدرسة المصرية الحديثة ..كتب يوسف أدريس والسباعى ومحمد عبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوس ...
كنت أحب أحسان عبد القدوس بصورة غير طبيعية ..وقرأت كل رواياته ولكن حبى لإحسان جلب لى المتاعب فقد كان يصنف وقتها أن أدبه وكتاباتاه كتابات إباحية أو مايسمونه (أدب الفراش) ...
كنت أقروأعترف بذلك ...وأعلم أن فى أدبه إباحية صارخة ...وكثيرا من الكلام غير المحتشم الذى يخدش ثقافتنا الإسلامية والعربية ...ولكننى من خلال كتاباته كنت اجد الكثير من الأفكار الجميلة والعبر المفيدة فيما يهم المجتمع والناس ... كنت أجتهد كى أخرج الوردة من بين الأشواك ..
أخى حسن كان يعزف على ذلك الوتر حتى يتقرب من والدى ويتهمنى بالفجور والفسوق حتى أسمانى فى البيت الزنديق الصغير ... وكان يردد فى البيت أن الذين يقرأون لإحسان عبد القدوس هم أناس أصحاف فسق وفجور ... كان يردد ذلك على طريقة النساء (فى المطاعنة) بالكلام
الحمد لله لم أكن فاجرا ...ولا فاسقا ...بل كنت مستقيما أودى صلواتى بإنتظام ولا إوذى أحد ...بل كنت أردد كلمات إحسان عبد القدوس فى برنامجه الشهير (صباح الحب ...ومساء الحب ...وتصبحوا على حب) ..
تأثر والدى بما يردده أخى الأكبر حسن ...وتألمت جدا عندما نادانى يوما بالزنديق الصغير ...وشرحت فكرتى لوالدى بأننى والحمد لله مستقيم ولكننى متنوع الإطلاع .. وقلت له ياوالدى أنا واضح فيما أفعل ولن أخدعك يوما ..فتبسم والدى وصمت ...
فى ذات يوم ..
وفى عز برد الشتاء فى مدينة من مدن الشمال البعيدة ..أيقظنا والدنا لصلاة الصبح ...البرد قارس ونومة الصباح لها مزاق ...وابليس اللعين لنا بالمرصاد ...أيقظنا عدة مرات وعندما تعب منا قال لنا أنا ذاهب للمسجد ...عليكم بالصلاة هنا فى الدار ...ثم ذهب
ثم ..
لم أدرى ماحدث
لكن عند عودته أيقظنا مرة أخرى ثم سالنى سؤال مباشر ياحسين هل صليت الصبح ؟؟؟
قلت لا وانا صادق ..
ثم سأل حسن نفس السؤال ياحسن هل صليت الصبح ؟؟؟قال نعم ثم صمت
جلس الوالد على كرسى بين أسرتنا ثم نهرنا و قال لنا أصحوا ...
قال الوالد الحزين الغاضب
الحقيقة أنكم الأثنان لم تصليا الصبح ...
على الأقل حسين كان واضحا وأجاب بالصدق ...
ولكن ياحسرتى على حسن الذى دلق ماء الأبريق على باب الإستراحة ثم فرش المصلاية ثم رجع لسريره ونام مرة أخرى ...
تلك الحادثة غيرت الكثير فى مجريات حياتنا اليومية ...وجعلت والدى يعيد تقييم الأمور بعيدا عن العواطف ...
فى ذات يوم سالنى فيى ماذا تقراء أيها العنيد الصغير ..
قلت له أنا يا أبى اقراء فى رواية شهيرة أسمها (لن أعيش فى جلباب أبى )
ضحك ..ثم ربت على ظهرى وقال لى (مصيرك يوما ترجع لجلبابى)
هندى عثمان - الخبر