الفصل السادس عشر
نحن جيل يأتى خلف جيل مضى ..
وسيأتى من بعده جيل …….
وكل هذه الاجيال خلقت لتعطى ..
من يأخذ يكون مسرورا بما اخذ ..ومن يعطى اشد سرورا لانه اعطى ..كأنه رصيدنا فى بنك الحياة ..فرحة توريد المال اجمل من فرحة سحبه ..
اجيال خلقت لتعطى ..
هكذا قال طاهر لنفسه وهو جالس على شاطى الترعة فى صباح خريفى رائع فى انتظار البص المربع ..اجدادى عاشوا وماتوا وهم يفلحون هذه الارض ..كافحوا فى هذا التراب ليعم الخير على باقى المليون ميل مربع الاخرى ..الجزيرة هذه الارض التى تساوى مساحتها مساحة بلد اوربى له دور فعال فى السياسة العالمية ..الجزيرة هى القلب النابض فى هذا الوطن القارة ..هى رمز الامل والبشارة … هى الخير الوفير ..هى القطار الذى تحرك فى ثلاثينات هذا القرن ..
ويجب ان تمتد المسيرة ..وان لانلتفت لوعورة الطريق ولا إلى تأكل القضبان ..وسيجد دائما الوقود الذى سيسير به ..سيسير بمختلف انواع الوقود قد يكون وقوده ديزل فى خبرة الشيوخ التى انحنى ظهرها من مسكة الطورية ..وقد يكون وقود سيوبر من عرق الشباب الذين عادوا فى الهجرة العكسية ..يجب ان يسير القطار ليصل الخير للوطن القارة ..يسير ولا يلتفت الى مداهمات اللصوص وقطاع الطرق الذين ينهبون الحمولة لان ماينهبونه لايؤثر على فائض الحمولة ..
سيسير القطار الذى عجلاته سواعد الرجال وتروسه طموح الشباب تستقبله محطات ومحطات اخرى لاتستقبله فيستحمل نقص الوقود ليصل الوقود لمحطات اخرى ..لايهمه من يستقبله بالتصفيق والهتاف ولامن يستقبله بالتجهم والاعراض فصوته العالى يحجب الهتاف ويأكل عبارات التذمر والهمهمة … نحن جيل العطاء ..سبقنا جيل ..وسيأتى من بعدنا جيل ليعطى ..
وصفارة القطار انزار مبكر لذوى الشأن والمصلحة قبل ان تحدث الكارثة ويسقط القطار فى الهوة
هذا المشروع بتخطيطه البديع وترعه الطويلة ومنشأته الكثيرة محالج وسكك حديد وورش ظل كما هو منذ ان تركه اهله الذين انشأؤه لم تضف له الخبرة المحلية شيئا يذكر …. خريجوا الزراعة
96
انتظراهم فى الغيط ففروا الى المكاتب الانيقة يحتمون بها من حرارة الصيف ..اهل الهندسة الزراعية لم ينقذوا حتى الان نمرة واحة من العطش الذى يهددها كل عام ولم تظهر النظريات ومشاريع التخرج التى كتبوها وظلت حبيسة الادراج ولم تخرج لتصافح هذه التربة الطينية البكرة وياخوفى عليها من العنوسة المبكرة ..اصحاب المكافحة والحشريين اقفلوا معاملهم يشتكون من شح الادوية وتركوا الحقل للذبابة البيضاء لتهدد محصول القطن كل عام ومابقى منه
تأكله أبقار حاج الجعلى ..
والقطن تجارة وبورصة ومضاربين وفوائد وأرباح للجميع عدا المزارعين ..لماذا لست أدرى ..
أهل السياسة مشغولين بالمناصب والمكاسب وينسون المكسب الحقيقى وهو التنمية ..
والتنمية هى هذا القطار ومن أراد التنمية فليركب هذا القطار ..هذا القطار الأخضر لاتقوم تنمية إلا به ..إذا كان هذا القطار اليوم بانت كهولته واصبح عئبا على الحكومات ولا يحقق الأرباح المرجوة منه وخفت ماكيناته وتصاعد الدخان منه فلتدعمه الحكومات ليس من اجلها ولكن من اجل الذين ارتبط مصيرهم بمصيره ..يكفيها فايدة أن يعيش المواطن الغلبان ..وان لاتفكر فى بيع مصيرهم للوهم ..
ولن يتم ذلك إلا بصيانة دورية لماكانته وتشحيم تروسه وطلاء غرفه وردم خطوطه واصلاحها فلن تقوم تنمية الابترميم هذا القطار واصلاحه من اكبر مسمار إلى اصغر ترس فيه ..والشارع الذى يسير عليه ..والمحطات التى يمر بها يجب تزويدها بالماء والوقود وقطع الغيار ..
ثم يجب أن يقوم هذا القطار من محطاته بمواعيد مظبوطة ..
يجب آن يكتب فى دفتر يوميات ناظر المحطة يزرع القطن فى اليوم الأول من شهر أغسطس الساعة السابعة صباحا والذرة فى اليوم الأول من شهر يونيو فى جميع المساحات وفى وقت واحد وكذلك القمح فى اليوم الأول من شهر أكتوبر ..نعم يجب أن تحسم فوضى المواعيد لان الزراعة توقيت وفرق يوم واحد يظهر فى الإنتاجية … يجب أن تكتب هذه الأشياء فى دفتر يوميات ناظر المحطة وعندما يحضر القطار يجدها مع الماء والوقود وناظر المحطة الشاطر الذى يرفع البيرق فى مواعيده يجب آن يعطى حافز ويكرم مثل الأبطال الفاتحين .الرى يجب آن تحسم مشكلته ..والإشاعة القديمة التى تقول أن الرى فى مشروع الجزيرة تحت سيطرة الشيوعيين يجب أن تنتهى لان الشيوعية انتهت فى موسكو فما بالك بمشروع الجزيرة ..الماء … لدينا اكبر نهر فى الدنيا
97
واصلح ارض فى الدنيا والعصر القادم عصر الزراعة والماء …. استراتيجية السياسة كانت قديما يحتل النفط فيها نصيب الأسد واليوم أصبحت الماء تناصفه النسبة ..خمسين فى المائة تقريبا ..وهنا مركز سلة غذاء العالم ..هنا قعر القفة ..
وصفارة القطار تجب صيانتها ..يجب إعادة النظر فى الصوت المشروخ ليعود مجلجلا من جديد يشق الأفاق ليعلن عن نفسه ..هذا عالم لامكان فيه للصوت الخفيض ..عالم يصرخ ..فلنصرخ معه..
وسمع طاهر صفارة ..لا بل بورى
لقد وصل البص المربع وايغظه من شروده ..البص الذى كتبت عليه إدارة مشروع الجزيرة بالسودان ..
ركب طاهر البص وهو مهموم جلس بجانب محمود بعدما تبادل معه عبارات الترحيب والسلام ..سأله محمود سؤالا لكن طاهر لم يسمعه ..تركه محمود وعلم انه ليس كعادته ولم يشاء أن يسأله مرة أخرى وترك الأمر لحينه
فى المدرسة بحث محمود عن طاهر فوجده جالسا على حافة أحد الجداول فى انتظار جرس الصباح
جلس محمود بجانبه ثم ..
محمود : طاهر
طاهر : نعم يامحمود
محمود : مالى اراك اليوم حزينا
ضحك طاهر وقال لا شىء او قل كل شىء يدعو للذهج
محمود : لا ..انت على غير العادة
طاهر : هل تصدقنى لوقلت لك اننى افكر فى الزراعة ..
محمود : ليس جديدا ومن يومك بتفكر فيها بل وبتحبها
طاهر : لاشك اننى احب الزراعة ولكنى محبط
محمود : عندى فكرة ياطاهر
طاهر : قول يامحمود قول ياابو الافكار
محمود : اذا كان العائد غير مجزى بيعوا الحواشة واشتروا بثمنها اى حاجة او اعملوا مشروع تجارى ..
98
ضحك طاهر ضحكة عالية ..ضحك كمن لم يضحك من قبل ..ضحك حتى لفت نظر الطلاب فى ساحة المدرسة
محمود : هل يمكننى ان اعرف السب انا لم اقل نكتة
طاهر : اظرف نكتة لان ماتقوله مستحيل
محمود : ماهو وحه الاستحالة فى ذلك ..
طاهر : لان الحواشة شىء لايباع
محمود : سمعت ورايتهم يبيعونها
طاهر : شذوذ يؤكد القاعدة
محمود : عن اى قاعة تتحدث انا اعرف ان هذه الدنيا مبنية على التجارة ..مبنية على التخصص ..ابيعك ماعندى لاشترى ماعندك ..مثلا انا ادبى وانت علمى هل تسير الحياة لو اصبحنا كلنا علميين او كلنا ادبيين ..حتى فى التجارة لو كسد نوع تحول التاجر الى تجارة اخرى ..
طاهر : كلامك حلو وجميل لكن بيع الحواشة يهدم فلسفتك هذه
محمود : لماذا
طاهر : لان الحواشة شيئا اخر ..شىء مختلف تمام الاختلاف عن رؤيتك للتجارة ..الحواشة ياعزيزى شىء مقدس حاجة كدة ذى اسمك هل تفكر ان تبيع اسمك ذات يوم يامحمود ..؟ هل تفكر فى بيع اسم ابوك .والمزارعين يحبون حواشاتهم حب غريب فى نوعه ..بل قل عشق خاص ..
جدى البدوى كان عندو مقولة مشهورة فى هذا الشأن ..
سالوه ذات يوم ما مدى حبك لحواشتك ..؟
تفتكر قال ايه يامحمود ..
محمود : قال ايه ..؟
طاهر : اذكره وانا صغير نظر خلال الافق ومشط لحيته البيضاء وقال ..لو ان المقادير والقوة او السر الالهى لدى لطويت حواشتى مثل الورقة الفلسكاب ..اطويها بعناية عند قروب الشمس واذهب بها لدارى وتنام تحت مخدتى وفى الصباح احملها فى جزلانى واذهب بها هناك وافردها وابداء العمل فيها ..
محمود : لاشك انه سر رهيب وراء هذا الاعتقاد
99
طاهر : بل سر مقدس ..مثل الغيبيات اشياء تحس بها ولكنك لاتستطيع التعبير عنها
محمود : ترى لماذا كل هذا
طاهر : مسألة وجود وكينونة ..اذا خيرت احدهم بين ان يكون مطالبا ومديونا مدى عمره وبين ان يبيع حواشته لاختار ان يظل مديونا مدى عمره فقط يكفيه ان يظل اسمه فى بركات وينده فى مكاتب التفتيش ورصيده صفر ومديون ..
محمود : بركات اذن هى كعبتهم المقدسة ..
طاهر : لابل هى الاعتقاد الراسخ على مدى الاذمان
محمود : مارأيك فى من باعوا ..هل كفروا بكعبتك المقدسة ..
طاهر : لا ..ابدا لكن امثال هؤلاء اختلف منظور الحياة فى اذهانهم ..
محمود : لا افهم ماذا تقصد
طاهر : يأتى الاختلاف فى هل الحياة معنى ام منفعة
محمود : الحياة ياطاهر منفعة شريفة وبطريق مشروع ( واحل الله البيع وحرم الربا )
طاهر : لامعنى للحياة اذا لم نعشها بعمقها … استغلاك لحقوقك الشرعية قد يأتى على حساب اشياء اخرى تعتبر اكثر قدسية من ثمنها ..
محمود : القداسة عندى ان تعيش مستور الحال وسعيد بالرزق الحلال
طاهر : اذا قدر لى ان اعيش مستور الحال ونائم فى سريرى وخدم وحشم وكل شىء بأشارة من اصبعى يتم ..صدقنى يامحمود لن اكون سعيدا
محمود : كافر بنعمة الله او معقد نفسيا او قاوى فقر ومتاعب
طاهر : العمل عبادة يامحمود ..خير لى ان اشقى واكد واتعب ويتصبب العرق من جبينى اغامر ..انجح ..افشل .من ان اعيش تلك الحياة التى تتكلم عنها ..ومتعة الحياة فى الحركة فيها فى تجاربها ..الحركة حياة والسكون موت..
محمود : وماهو حكم المحكمة فى اؤلئك الذين باعوا يافيلسوف .؟
طاهر : قطعوا جزورهم ..او حملوها معهم ..اوفروا بجلدهم ..
محمود : ببساطة تصدر منك مثل هذه الاحكام القاسية ..
طاهر : لانه التفسير الوحيد ..او هو الفهم السائد فى الاذهان ان هؤلاء اعلنوا تمردهم هو تمرد
100
لايشبه الدخول الى الغابة ولكنه تمرد تحسه الارواح ..
محمود : عادت لعبة الروح
طاهر : هى التى تحكم الكون
محمود : هيا لقد ضرب الجرس
وقاموا كسالى وارجلهم خدرانة من الجلوس … نسى طاهر نفسه وهو يدخل مع محمود الفصل الادبى ..
101