رقم 11
حكاية أمانى
فى قرية من تلك القرى التى توجد داخل مشروع الجزيرة والتى عادة ماتكون جزءا من سراباته أى مابين أبو ستة وأبوستة أخر ..أو تلك التى توجد فى طرف ترعة
او شابورة أو برقان بين نمرتين .. فى تلك الأماكن عاشت أمانى ..
أمانى تلك الفتاة الأبنوسية الممتلئة ذات العيون الرائعة التى يشع منهما البراءة والنقاء والطيبة وحسن النية ..هى من قبيلة البرقو تسكن فى برقان بالقرب من تلك القرى التى حظيت بمدارس و مرافق حكومية أخرى ..وملاك أراضى تخدم هى وأسرتها فى أراضيهم بالشراكة أو الأجر المقطوع أو بالإجارة فى مابعد ..
كانت زميلتنا فى المدرسة الإبتدائية المختلطة ..الجميع يشهد لها بالذكاء والإلتزام وحسن العشرة ..
كانت فى خيالى المراهق شيئا بديعا مزيج من الفطرة والنقاء ..كان كل شيئا فيها يقنعك بأنها أختك ..دفاترها البسيطة أقلامها الانيقة .. كانت تتسم بالنظافة فى بيئة غير نظيفة.. خطها كان يحاكى اللوحات القرءانية ذات الطراز الكوفى ..
وكانت يتيمة تعيش مع جدتها هى واختها ..تذهب للمدرسة صباحا ..وللحقل عصرا ..كانت سعيدة بتلك الحياة ..على الأقل فى ذلك الزمان ..لأنها كانت تحس بتفردها وتميزها فى القرية التى نشأت بها ..لأن الغالبية العظمى من بنات جنسها لاتهتم بالدراسة وأنما جل إهتمامهم منصب على كسب المعيشة والعمل فى الحقول والأسواق ..
مرت السنوات ذهبت هى إلى مدرسة اوسطى أخرى وذهبت أنا إلى أخرى وأستمر تفوقها حتى دخلت الثانوى وأمتحنت الشهادة الثانوية وأحرزت مجموع ونسبة مئوية محترمة ولو لا الظروف التى مرت بها فى ذلك العام حيث توفيت جدتها و لأن دخول الجامعة كان معضلة فى تلك السنين تلك سنوات ماقبل ثورة التعليم العالى أكتفت بتلك الشهادة وفكرت بأن تعمل بمهنة التدريس بتلك الشهادة كى تعول أختها لأنه و بعد وفاة الجدة الحال لم تعد هى نفس الحال ..ويشهد الجميع أنها أول بنت تحمل شهادة ثانوية فى قريتها المتواضعة ..
فى البداية تتطوعت وأدت الخدمة الوطنية ...
وظلت تحمل أوراقها وتقدم للجنة الأختيار فى الولاية لمدة ستة سنوات ..وطوال تلك السنوات كانت متطوعة بالمدرسة .. ولكن لأنها لاتملك أى معرفة أو أى وساطة كانت تستبعد من أول شوط .. ولفائدة الجميع نشير إلى مافيا تعيين المعلميين فى الولايات حيث يوجد هناك ديناصورات يتحكمون فى عدد الوظائف على قلتها وتوزع بالكوم وبالترضيات وتعقد فيها صفقات بعيدا عن عيون الدولة التى لم تفتح هذا الملف الخطير من قبل ..المهم نعود لأمانى
وعام بعده عام كان نشاطها يزبل وتفاؤلها يقل تبعا لذلك ..أخر مرة ألتقيتها قبل عامين وقالت لى عبارة مازالت تزن فى أذنى (العرجا لى مراحها) كانت تعيش أزمة المثقفة فى بيئة لاتهتم بالتعليم .. والعارفة فى بيئة لا تهتم بالمعرفة ..ذلك التناقض الرهيب
قبل فترة وجيزة قيل لى أنها تمر بظروف حرجة ..ساءت نفسيتها وبانت عليها أعراض عدم الإتزان ..أهلها وعلى قدر معرفتهم وعلى قدر حيلتهم ذهبوا بها إلى المشايخ والفقراء وأمثالهم ..
ساءت حالها أكثر ..الذين رأوها لم يتعرفوا عليها ..لأنهم رأو حطام إنسانة كانت ضحية لعدة أطراف ..
الزمن والرشاوى والمحسوبية وإنعدام الإنسانية أقتالت الأمانى طفلة وشابة .. إذا سلمنا جدلا بأن من ليس له واسطة فليبحث له عن واسطة فكيف تجد أمانى الواسطة وهى أول بنت تحمل شهادة ثانوية فى قريتها .... إنزل علينا نعمة العدل ياإلاهى ودمر أعداء الإنسانية وكل من يأتيك يوم القيامة يحمل حقا غير حقه أخسف به الأرض ...
ومرت السنوات ..وتوقف القلب .. توقف القلب لأنه لم يستطيع تحمل الرهق ..والظلم ...والمعانا ...وظلم الإنسان لأخيه الانسان ..يارب ...يارب رحمتك على أمانى