الرحمن الرح" longdesc="2" /> الرحيم
سيرة الشيخ البرعي
(الزريبة) قرية سودانية تقع في منتصف خريطة السودان الجغرافية، وتتبع لولاية شمال كردفان، وتقع شمال شرق مدينة الأبيض وتبعد عنها بحوالي 100 كيلو متر، كما تقع جنوب غرب مدينة الخرطوم وتبعد عنها بحوالي 300 كلم.
في هذه القرية الصغيرة النائية ولد العارف بالله سيدي الشيخ عبد الرحيم البرعي في العام 1923م.
كان والده الشيخ محمد وقيع الله قطبا من أقطاب التصوف وشيخا عارفا بالله تعالى، وداعيا إلى الله وفق المنهج الصوفي الذي تربى عليه في كنف الطريقة السمانية التي أخذها وتلقى آدابها على يد العارف بالله الشيخ عمر الصافي (شيخ الكريدة)، وبعد إجازته شيخا في هذه الطريقة قام بتأسيس مسيد الزريبة في نهايات القرن التاسع عشر.
وفي هذا المسيد ولد الشيخ البرعي في رحاب الذكر والقرآن والإنفاق في سبيل الله والتجرد والإخلاص في عبادة الواحد الأحد والدعوة إليه على بصيرة.
وحينما بلغ سن التعليم التحق رضي الله عنه بخلوة والده طالبا للقرآن الكريم على يد الفقيه ميرغني عبد الله، فكان تلميذا نجيبا تبدت عليه ملامح الذكاء وقوة الفهم وسرعة الحفظ، واستطاع في وقت مبكر دراسة القرآن الكريم دراسة واعية ومتعمقة في فهم معانيه ومتابعة أسراره العظيمة التي تتجلى له في أحاديث والده وتفسيره للقرآن الكريم في مجالسه اليومية.
بعد دراسة القرآن الكريم انتقل الشيخ البرعي رضي الله عنه إلى دراسة العلوم الدينية على والده الشيخ محمد رضي الله عنه، وكان يقرأ على والده نصوص الكتب العلمية ويتلقى الشروح من أبيه.
وقد تعددت المعارف التي تعلمها على والده، فعلى كثرة ما استوعب منه العظات والدروس التي كان يلقيها على عامة رواد سوحه الكثر في مجالسه العامة، إلا أن الشيخ البرعي رحمه الله درس على والده عددا من العلوم ونذكر منها على سبيل المثال تفسير القرآن الكريم وبعض صحاح كتب السنة النبوية، وكذلك كتب الفقه المالكي والسيرة النبوية وغير ذلك من العلوم الشرعية.
إضافة لذلك فقد أخذ الشيخ البرعي الطريقة السمانية على والده رضي الله عنه وتأدب بآدابها وعمل بأورادها ووظائفها المختلفة من قيام الليل وصوم النهار والجد والاجتهاد في طاعة الله تعالى، ونحا في ذلك نحوا متميزا آخر وهو الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان يتلو كتاب دلائل الخيرات في اليوم الواحد اثنا عشر مرة بمعنى أنه يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر ساعة يوميا، ومما حكاه أنه في عهد صباه كان ممسكا بهذا الكتاب أمام والده فسأله عنه فقال له إنه دلائل الخيرات فقال له والده: وأين دلائل خيراتك أنت؟ بمعنى لماذا لا تؤلف أنت كتابا في الصلاة على رسول الله بدلا من قراءة مؤلفات الآخرين؟ .
وهذا بالضبط ما دعا الشيخ البرعي إلى كتابة المدائح النبوية التي اشتهر بها فيما بعد، فكتب آلاف المدائح التي لم يسبقه إليها شاعر مديح نبوي من قبل على الأقل من حيث الكم مع التميز النوعي لأشعاره والذي يشاركه فيه غيره من شعراء مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم.
تقلد الشيخ البرعي خلافة والده الذي توفي في عام 1944م، وكان عمره وقتذاك 21 سنة.
وحال تقلده الخلافة أخذ رضي الله عنه ينظر إلى الأمام، وقد ساعده صغر سنه وقوة شبابه ونظرته الثاقبة وهمته العالية وثقته في الله وإخلاصه في العمل، على إعداد خطة بعيدة المدى تنفذ خطوة خطوة ليخرج من إطار الزريبة القرية الصغيرة النائية إلى فضاء العالم الرحب.
فبدأ بتطوير مسيد الزريبة وبناء مرافقه بالمواد الثابتة بدلا من مباني (القش) البدائية التي كانت تتيحها بيئة المنطقة الرملية القاحلة مع بعدها عن الأماكن الحضرية التي تتوفر فيها مواد البناء الحديثة واليد العاملة في هذا المجال.
وكانت هناك كثير من المعوقات التي تجعل من فكرة التطوير أمرا مستحيلا نسبة لانعدام الماء الذي يستجلب من الآبار البدائية بالدلو، وكذلك انعدام المواصلات في تلك الأماكن فوسيلة المواصلات الوحيدة المتوفرة في ذلك الحين هي الدواب، والتي استخدمها الشيخ البرعي في جلب الحجارة من جبل يبعد عن الزريبة بحوالي 30كلم لبناء المسجد، وكانت الإبل التي اختارها الشيخ ليرمز بها لسور القرآن الكريم في قصيدته الشهيرة (إبلي المشرفات)، كانت هي الوسيلة الوحيدة التي يستجلب بها الشيخ مواد البناء والتي كان يشتريها الشيخ من الخرطوم وينقلها بالقطار إلى أم روابة ومنها بالدواب إلى الزريبة.
وهكذا بهذه العزيمة وتلك المشقة استطاع الشيخ البرعي أن يبدأ أولى الخطوات في مسيرة الدعوة والإصلاح في طريق لم يكن مفروشا بالورد كما يقولون.
وقد صاحب هذا التطوير توسيع دائرة التعليم للرجال والنساء في خلاوي القرآن الكريم بالزريبة وغيرها من الأماكن الأخرى، وشرع الشيخ في بناء معاهد العلوم الإسلامية والمساجد في شتى مدن وقرى السودان ومنها الأبيض وامروابة وأم دم حاج أحمد وأم درمان والخرطوم ومدني والدويم وسنار وبارا والمزروب وبورسودان ونيالا وغيرها من الأماكن في السودان.
ومع ذلك اهتم الشيخ أيضا بإقامة المشتشفيات مثل مستشفى الزريبة التخصصي ومستشفى مجمع الخرطوم الإسلامي.
وللشيخ دور كبير في مجال الإصلاح الاجتماعي من خلال إقامته عشرات المهرجانات التي تعقد فيها الزيجات الجماعية للفقراء من الشباب، وقد عقد في آخر مهرجان قبل وفاته لأربعة آلاف وأربعمائة شاب.
كما كان الشيخ رضي الله عنه يسعى في الإصلاح بين الأفراد والجماعات المتناحرين وشهد بنفسه مئات مجالس الصلح في شتى أنحاء السودان، وامتد ذلك ليتوج برعايته مع عدد من العلماء مفاوضات السلام بين الشمال والجنوب في كينيا عام 2004م قبل وفاته بشهور قليلة.
اشتهر الشيخ البرعي كواحد من أعلام شعر المديح النبوي وقد بلغ في هذا المجال شأوا بعيدا كما أسلفنا ، وبدأ كتابة المدائح منذ السابعة من عمره، فلقد كان والده رضي الله عنه أيضا شاعرا، وقد تفتقت عبقرية الشيخ البرعي الشعرية فكتب آلاف القصائد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تقتصر كتابته في هذا الجانب فقط، بل تعدى ذلك للنظم المموسق في شتى ضروب الدعوة إلى الله تعالى ومن ذلك منظومة في علم التوحيد ومنظومة في علم الفقة وقصيدة في علم النحو والإعراب، وقصائد لا تحصى في الآداب الإسلامية مثل قصيدته (بوريك طبك)، وقصائد أخرى في آداب التصوف وأخرى أيضا في مدح أعلام الصحابة رضوان الله عليهم وكذلك في أعلام الإسلام عموما والتصوف على وجه الخصوص مثل الشيخ عبد القادر الجيلاني والشيخ محمد السمان والشيخ أحمد التجاني والشيخ أحمد الطيب بن البشير والسيد علي الميرغني والشيخ إسماعيل الولي وغيرهم من أعلام الإسلام.
هذه القصائد وغيرها لم يتم حصرها وجمعها كلها نسبة لطول العهد بين بداية كتابة الشيخ للشعر في عام 1930م وحتى وفاته في عام 2005م، ولكن الموجود الآن من هذه القصائد ربما يزيد عن مائة ديوان شعري، وقد قام مركز الأسباط بجمع هذه القصائد وتم منها حتى الآن (2008م) طباعة الدواوين التالية :
- رياض الجنة
- مصر المؤمنة
- ليك سلام مني
- الصحابة
- هداية المجيد
- بوريك طبك
- الجوهر الأسنى
- The voice from heaven وهي مجموعة قصائد للشيخ بترجمة الدكتور إدريس البنا.
هذا وما زال المركز يواصل توثيق وطباعة بقية هذه المؤلفات بالإضافة لمؤلفات الشيخ الأخرى المنثورة الموثقة بصوت الشيخ رضي الله عنه فنسأل الله تعالى التوفيق.
لقي الشيخ البرعي كثيرا من معاني التكريم والتبجيل طوال مسيرة حياته العامرة ونال أرفع الأوسمة والأنواط من مختلف الجهات ونذكر هنا على سبيل المثال:
-وسام الدولة للعلم ولآداب والفنون 1991م
-نوط الامتياز من الرئيس المصري حسني مبارك 1994م
-بردة المديح من الرئيس الليبي معمر القذافي.
-الدكتوراة الفخرية من جامعة ام درمان الإسلامية 1984م
-الدكتوراة الفخرية من جامعة الجزيرة 1994م
-الدكتوراة الفخرية من جامعة النيلين 2001م
-الدكتوراة الفخرية من جامعة كردفان 2006م
انتقل الشيخ إلى الرفيق الأعلى يوم عاشوراء 1426هـ الموافق 19/2/2005م، وقد ووري جثمانه الطاهر بمسيد الزريبة بجوار قبة والده الشيخ محمد وقيع الله رضي الله عنهم جميعا.
وقد خلف الشيخ البرعي ابنه الأكبر الشيخ الفاتح حفظه الله وهو يسير على خطى والده في الدعوة إلى الله تعالى والإصلاح الاجتماعي ، نسأل الله تعالى له التوفيق والسداد.
كسلا دوحة الشرق