الفصل الأول
الجمعة العاشرة صباحا ..
على شاطى الترعة الرئيسية والتى تمر بمكتب الغيط جلس محمود الدنقلاوى وهو محتار الفكر حائر لايدرى ماذا يفعل ..لقد تأخر طاهر وهو نادر مما يتأخر عن مواعيده ..ومواعيده كانت الثامنة صباح أى جمعة أمس التقيته وكررت له ضرورة الحضور مبكرا لأن اليوم سوف نذهب إلى حواشهتم ومعنا كبريت لنحرق الفول ..
أنشغل ذهنه عن طاهر وبداء يتأمل مكتب الغيط هذا المبنى العتيق ..فى الحقيقة هو مجموعة مبانى تتكون من مكتب رئيسى كبير به غرفتان كبيرتان وصالون كبير ومن هذا المكتب تدار شئون المزارعين
مبنى من الطوب الأحمر الكبير تلك المبانى القديمة التى بناه الأنجليز تجدها فى الوزارات القديمة والجامعة الأم وبعض المصالح الحكومية الأخرى التى تعاند عوامل الطبيعة بإصرار وتحدى مثل فكرة فى رأس الموظفين القدامى ..فيهم شىء يشبه المبنى ..والمبنى فن معمارى كلاسيكى عتيق تحيط بالمكتب فرندات دائرية محدبة ..تلك فرندات ظهر الثور سقفها من قطع البلاط المربع رصت فى نظام بديع الشبابيك وباقى الأثاث من خشب البلوط المتين ..فيه شى من الحضارة ..مع العلم ان عمره تجاوز الخمسون عامل إلا إنه مازال فيه شيئا من الفخامة ..ليتنا بدأنا من حيث أنتهو ..وإذا كان هم كانو هكذا قبل خمسون عاما ..ونحن نعرف الفرق والحضارة شيئا متكامل لابد أن الفرق بيننا يقاس بالسنوات الضوئية ..
سور المكتب فى شكل جدول مربع زرعت على جانبه مختلف الأشجار أشجار ظل وأشجار زينة وأشجار الورد ..أشجار الورد تنتج أجود أنواع العصى الخيزران التى كان للكثيرون منا نصيبا فى التربية والجلد .. يوجد داخل هذا السور عدة منازل متفرقة المنزل الرئيسى هو منزل الباشمفتش ..وهو بالطبع مدير كل شى هنا ..مدير المكتب ومدير شئون المزارعين وممثل الحكومة أما بقية المنازل فهى بقية منازل موظفى الإدارة والعمال والمحاسبين ..والكتبة والخفراء ..
تحيط بهذه المجموعة السكنية سور خارجى من أشجار النيم والسنط والجميز ....كما يوجد شيئا أساسيا أخر هو ذلك المخزن الكبير العتيق ..مصنوع من الزنك والحديد وتوجد داخله كل مستلزمات المزارعين ..الاسمدة والتقاوى والمبيدات الحشرية وبالات الخيش الفارغ وألات قليع القطن له رائحة خانقة تسبب الإغماء ..
3
المكتب وفرت له الخدمات وحفرت فيه بئر إرتوازية لماء الشرب الصالح ..ومد له التيار
الكهربائى من مركز المنطقة ..هناك بقايا لتلفونات قديمة كفت عن الرنين وخرست أجراسها وفارقتها الحرارة منذ زمان مضى ..ولكن هناك .. مشروع جديد لمنحة يابانية لتلفونات القناطر بدأ تركيبها ..يقال أنها تعمل بالطاقة الشمسية ..
بدون أدنى شك لقد بذل فيها مجهود مقدر هذه المبانى ولكن يد الذمان مرت عليها وبداءت المنازل تتصدع وجنبات الفرندات تنهار وشبابيك البلوط المتينة بداء السوس ينخر داخلها وحلت محلها شبابيك حديد رخيصة الثمن ورخيصة القيمة الفنية أحواض الرخام الابيض الناصع حلت محلها أحواض الاسمنت الأسود الخشن الملمس ..أسلاك الشبابيك تخرمت واصبحت أعمدة بدون اسلاك ..الصالونات الانيقة سكنتها الزواحف وفئران القيط ..مراوح السقف أصبحت مثل الطواحين القديمة تسمع لها صرير يصم الأذان ..الأصطبل الفخم سكنه حمار عمى زكريا الأعرج تلك اشياء بناها وأسسها الأنجليزى المستعمر وكانت على درجة من الجودة ولكن مابالنا نحن نعجز حتى عن صيانتها ..
...يامحمود ..
من داخل المنزل سمع صوت الوالدة يناديه للفطور ..تنبه لنفسه وأدرك أنه لبس ذمانا وهو فى إنتظار طاهر وطاهر لم يحضر ..ويبدوا ان القراصة بردت ..ترى اين انت ياطاهر ؟
طاهر صديقى منذ الإبتدائية درسنا معا فى حلة الجعلى ..جزبتنى إليه كثيرا من الاشياء وحببتنى فيه بل ولا أود الإفتراق عنه ..طاهر ودود ولطيف وعميق الفكرة ..وسيم نوعا ..قال لى ذات يوم ان له جد تركى ..له ملامح جزابة وجسم رياضى مفتول العضلات يذكرنى بأبطال كمال الاجسام ..عندما كنا نسبح معا فى الترعة الكبيرة كان يستعرض امامى جسده المتناسق ...الغريب فى الامر أنه كان يقول لى دائما توجد عضلة صغيرة تحت منطقة الصرة ..لا ادرى لماذا أذكر ذلك الأن ..يهوى أنواع غريبة من أنواع الرياضة مقارنة بأقرانه ..تنس المضرب وكمال الاجسام ..واشياء مثل التاكندو وغيرها لا يمارسها ولكن متتبع لأنشطتها فى الإعلام ..لونه أصفر مثل عيدان القمح قبل حصاده ..يحمل وجه مستدير وشعر اسود غزير مجعد شديد التجاعيد عيناه السوداوان الوسعتان تحكيان تجارب أكبر من عمر صاحبها ..مربوع القامة قليل الإبتسامة للوهلة الاولى إذا لم تكن تعرفه تظنه عابس ولكنه أبعد كثيرا من العبوس ..ذوء مروة وشهامة ووفاء لا حدود له ..فائق الذكاء ذلك الذكاء الفطرى الذى ينبت مثل شجرة مثمرة وسط الحشائش
4
والطفيليات ...كان أول دفعتنا فى نهاية كل عام ..
طاهر يسكن حلة الجعلى والتى تبعد مسافة أثنين كيلو متر من مكتب الغيط الذى نسكن فيه نحن ..صداقتنا عمرها طويل درسنا معا الإبتدائية والمتوسطة وفى هذا العام ذهبنا معا لندرس الثانوى فى مركز المنطقة ..أحب القراصة التى تجييد صنعها الوالدة لذلك كان يرتب لحضوره يوم الجمعة قبل الإفطار ...أحيانا فى ايام الخريف يأتى حاملا معه كيس دكوة و الطماطم والشطة الخضراء من أصحاب الجنائن القريبة من الترعة الأولى ..بالعموم كان دائما معنا ..مثل واحد منا تعلم بعض مفردات الرطانة وأحب أكل الفسيخ والقراصة ...كان يحب الفسيخ بصورة مبالغة ..عيناه تألمانه من المذاكرة بلمبة الجاز فيأتى ليذاكر معنا على ضوء الكهرباء المقطوعة دائما فنقضى اليل فى السمر والحواديت ..
تلك ليالى قضيناها معا ونحن نذاكر دروسنا وأحيانا نتانقش ويتشعب بنا الحديث ..فى المذاكرة كان أكثر صبرا منى ..أنا على عكسه كنت أحس بالتوتر والقلق وتوتر مبهم لايفارقنى حتى أدع الكتاب ...كان يهوى حساب المثلثات ويحاول إيجاد طريقة حل اخر لكل المسائل ..بينما كنت أنا أهوى الأدب والشعر ...من المفارقات العجيبة أنه كان يقوم منتصف الليل ليحل مسألة رياضيات ..بينما كنت اقوم انا منتصف الليل لأدون خاطرة ..أو أكتب قصة حلم عابر ..أذن مالذى جمع بيننا ..نحن مختلفان ..هل نحن الوجهان للعملة الواحدة ...أم نحن قطبان للمغنطيس سالب وموجب لذا حدث التجازب ...لست ادرى ..ولكن الحمد لله ..على كل حال كانت هناك الفة روحية عجيبة تجمع بيننا عمق ذلك التقارب سمة الفقر المشتركة بيننا فوالده لا يملك فى الدنيا سوى الخمسة افدنة التى يزرعونها فى مشروع الجزيرة ..وأنا ابن الخفير ...خفير المكتب ..الخفير الذى يوزع الماء للأراضى ...فى السنتين الاخرتين رقى والدى إلى باش خفير ...بدون دبورة مثل الفرق بين أحمد وحاج أحمد ...على الاقل هى ترقية اراحتنا من مشاكل المزارعين وأصبح والدى يركب أحيانا فى عربة الباشمفتش ...امى كانت تحب طاهر مثل ابنها الذى لم تلده وكانت تقول لى انه ولد طاهر كن معه دائما ..
يامحمود ..
مرة اخرى سمع صوت الوالدة يناديه من الداخل ...
نعم ياوالدة ...
5
يبدو ان القراصة بردت ...
الضلع الثالث فى هذا المثلث العجيب هو بدوى ...بدوى الجعلى ...بدوى ابن شيخ الحلة أهم شخصية فى المنطقة الرجل الواسع الثراء ...الثرى ماديا ..والفقير المدقع روحيا ...وبدوى هذا عدو لدود لطاهر ياسين كانا دائمى الشجار وكنت اقوم بينهم بدور حماماة السلام ...طاهر كان يرى فى طاهر نوعا من التعالى والغطرسة غير المبررة ..ولكن والحق يقال لقد كان بدوى حقودا ولا يتمنى إلا اشياء الأخرين ..لأنه كان يرى نفسه أحسن من الأخرين ..خصوصا طاهر ....لا أدرى من اين يأتى هذا المجد الزائف ..هل لأن والده شيح الحلة وماذا يعنى ما دام شمسا واحدة تجفف ملابسنا ..أذكر اننى قلت هذا المثل لطاهر ذات يوم ..فقال لى ضاحكا أنت قديم ياأخى هناك من لايستعملون شمسك هذه فى تجفيف ملابسهم ..ربما يكون السبب هو المال ..الويل لنا من الفقير الجاهل ..
ولكن الحقيقة المجردة والتى يعلمها الكل أن هناك إعتقاد لدى كثيرون من ابناء بعض العوائل لديهم إحساس بأنهم أفضل البشر ..مجرد أنه ابن فلان ...يحس الفرد منهم بانه افضل البشر حتى لوكان متواضع فى مستواه التعليمى ..أو كان متواضع فى مستواه الأخلاقى ..حتى لو كان متواضعا فى جميع المهارات ..ذلك هو المجد الزائف ..الغريب فى الأمر أن أمثال هولاء دائما ما يكونو فى غفلة من أمرهم (مسروقين من الزمن) ..والزمن دائما كفيل بهم ..
ولكن ..
برقم ذلك كان طاهر يملك الشبع النفسى فى الدفاع عن نفسه ..أوضح علامة للرجل الحقود هو ترصده لأخطائك ..كلنا خطاوؤن وجل من لا يخطى ..والخطاء ضعف بشرى من عهد المسيح ..ومن لا يتسامح مع أخطاؤنا يلغى ادميتنا ...السؤال الذى يفرض نفسه دائما هو من السهل أكتشاف الحقد ولكن كيف نحاربه ..دار هذا السؤال فى رأسى كثيرا وأفترضت له عدة إجابات ..ووجدت أن أنجع السبل لمحاربته هى السمو بالنفس والإجتهاد الشريف فى معارك الحياة بشرف والنجاح بشرف لأن أكثر الاشياء التى تعزب الحقود هى هى نجاح الأخرين ..ولكنه شيئا صعبا بالنسبة للنفس اليغظة التى تحب العدل لهها ولغيرها ..
قلت هذه الفكرة لطاهر ذات يوم ..فقال لى أنت تحاربه بنجاحك ولكنه مريض يحتاج للعلاج السؤال كيف نعالج المريض ...وليس كيف نهزمه ..
6
أذكر أن طاهر قال لى ذات يوم لو أن بدوى يدرى الشبع الروحى الذى نعيشه لحاربنا من أجله ..طبعا هو مكتفى من الأطعمة التى تشبع المعدة ...وازكر اننى قلت له أنا اريد ذلك الشبع الذى احسه فى بطنى ..ويدفينى فى الشتاء ويجعل القوم يهبون لمعانقة وجهى ويسمعون حديثيى ..
ولكنه قال لى أنت مثلى فلا تكابر ..ولكنى أنا الأن فعلا جائع ..
يامحمود ..
فى تلك اللحظة ظهر طاهر وهو ينحدر من ناحية الكبرى ..فى ذلك اليوم ضحك محمود لأنه راى طاهر يلبس سروال طويل متسخ ملطخ بالطين وقميص اخضر هو باقى لبس المتوسطة وكان يبدوا مرهقا ..
محمود : اين أنت أيها الشقى ..وكمان لابس لبس خمسة ؟؟
طاهر : أسكت ساكت وكمان ماسك موية فى القمح
محمود : موية ..واين والدك
طاهر : عندو شوية حمى ويبدوا أنها الملاريا اللعينة
محمود : ربنا كريم هيا بنا على القراصة الوالدة فى إنتظارنا ..أكاد أمةت جوعا ايها الصديق
وضع يده على كتف طاهر ودخلا الدار ..
7
موضوع: الفصل الاول 
الأحد يناير 24, 2010 3:38 pm
