الفصل الثانى والعشرون
فى صباح اليوم التالى ركب الصديقان البص المربع الذى كان ينقل طلاب المتوسطة بعد إجازة طلاب الثانوى وذهبا إلى المدينة القرية أو القرية المدينة ..
فى المستشفى الريفى ذو الخدمات المتواضعة قاما بإجراء الفحوصات اللازمة وجلساء على كنبة طويلة فى إنتظار النتيجة ...أحس طاهر بالتعب ...طلب من محمود مجالا فى الكنبة ليرقد عليها
رقد طاهر على الكنبة الطويلة ...أصوات وهمهمات المرضى ورائحة الديتول ..بكاء الأطفال من الحقن وطنين يصم الأذان ...أغمض عينيه وكف عن النظر خارج النفس وبداء ينظر داخل نفسه ..وحديث النفس للنفس حديث ذو شجون
النتيجة ..انا الأن فى إنتظار النتيجة ...ثلاثة نتائج لثلاثة إمتحانات ...مرضية ودراسية وأخروية عزاب ثم عزاب أكبر ثم عزاب أكبر منه ..
أقسى شىء فى الدنياء إنتظار النتائج ...وأشدها قسوة مايتعلق بالمصير كالشهادة المرضية ترى ماذا تخبى لنا الأيام ...ماذا تحمل صحيفة أيامنا وماذا خط لنا القدر فيها ..هل سيأتى العزاب كالصاقعة ام سنستقبله درجة درجة
ربما أكتشاف العزاب دفعة واحدة يجعلنا نصرف النظر عن مواصلة المشوار فنختفى فى اقرب طريق جانبى رغبة فى الفرار ...والأسم الأدبى أو الأسم الظريف هو الإنتحار ..متعللين بأننا لم نختار انفسنا ...ولم نختار مصائرنا ولم نختار ألواننا ..ولم نختار الشعوب التى سننتمى إليها ..
الإختيار أكذوبة نتشدق بها ...إختيار الإتجاه السياسى أكذوبة ...إختيار الزوجة أكذوبة ...إكتشاف المذهب أكذوبة
أننا لانختار الأسم الذى نعرف به ...أبسط الاشياء هو إختيار الاسم ونحن لانستطيع إختياره ..كلمة الإختيار تعنى الفرار تعنى الهروب ...واستغفر الله فالهروب جريمة ...الإنتحار جريمة نحن خلقنا بمشيئة خالق مدبر يفعل مايشاء ...الإيمان بالقدر ركن إيمانى مهم إذن فلتفعل بنا الأقدار ماتشاء ويكون لدينا الأمل فى الغد ...الأمل اكسير الحياة ...الأمل رتب اوراقه بعناية فى الدفتر لتفتح صفحة صفحة لنمنى أنفسنا بوجود صفحات بيضاء فى المستقبل وقلم رصاص لنرسم عليها رسومات التفاؤل والفرح . ولكن اين هو الفرح ...وسمع صوت الممرض ينادى
طاهر ياسين
اراد أن ينهض لكن محمود كان قد سبقه ..حمل نتيجة الفحص وذهب بها للدكتور ...فى الكرسى المواجه للدكتور جلس محمود وبعد محادثة قصيرة عاد إلى طاهر وقال له
طاهر أنت مصاب بتيفويد
قال طاهر إذن فقد صعدت درجة ثانية
محمود : لاتخف أطنه بسيط ..المهم أننا اكتشفناه ...ربت على كتفه وقال سأذهب غلى صرف العلاج وبعدها نعود للقرية ...
جلس طاهر على الكنبة وعيناه تراقب محمود الذى ذهب إلى الصيدلية ..راه يدفع مبلغا من المال للصيدلى ولكنه لم يدرى كم دفع ...أسنده محمود وخرجا من المستشفى وجلسا فى إنتظار البص المربع.
عندما جلسا فى المظلة خارج المستشفى أخرج محمود كيس به مجموعة ضخمة من الأقراص البيضاء ...وقال لطاهر سوف تبلع كل يوم حبتين من هذه الأقراص ..أمسك طاهر بكيس الجير الأبيض ..نظر إليه قليلا ثم ناوله لمحمود
محمود : هو مرض بسيط لكن فترة علاجه ستطول ..عليك بالصبر
طاهر : الصبر يبدو انه غريمى فى الميدان
قال محمود مغيرا دفة الحديث ..لماذا تأخر البص
قال طاهر علينا بالصبر
محمود : أرى فى وجهك كتلة من التشاؤم ...تفاءل ياأخى
طاهر : أنت ترى ذلك ولكنه شيئا فوق إرادتنا ....هناك لوبى داخل انفسنا يحكمنا ويشكل تصرفاتنا لوبى يقف فى وجه الروح والعقل ويخرج قراره نافذا برقم الروح والعقل
محمود : لوبى مصطلح جديد ...بعد الروح والعقل يظهر هذا اللوبى ...هل هو مثل اللوبى الصهيونى فى أمريكا
طاهر : ليس تماما ...مثلا فى نيتى أن لا أغار من فلان لأن الغيرة تحط من المكانة ولكن رغما عنى أغار منه ومثالا اخر فى نيتى الأن أن لا احزن ولكن رغما عنى احزن ..وطبعا فى النهاية القوة النافذة للروح لانها تعيد ترجمة الأشياء
محمود : إذن كيف ينفذ أمر هذا اللوبى رقم مشيئة الروح
طاهر : اللوبى هو القوة الخفية أو العقل الباطن ..والروح هى معبر الحقيقة
محمود : أنسى اللوبى قليلا أنسى بنى صهيون ...ألم تخدعك الروح فى حب سلمى ؟؟؟
طاهر : بالعكس الروح هى التى اوصلتنى لسلمى
محمود : ولكنها هربت على حسب قولك
طاهر : هربت لأنها أكبر من المخاطر ..هربت لأن غرامى غير مأمون العواقب ...هربت لأنها من عالم وانا من عالم أخر ...هربت خوفا من التضحية ...هربت خوفا من القش والزبالة وموية ابوعشرين وناموس الخريف ...تصور عندها حساسية ضد الباعوض ...جسدها لايستحمل لدغة باعوضة ..لذا هربت ...والأهم من ذلك كله أنها هربت لان حبى أكبر منها ومن أبوها ...
بان الغضب عليه وبدإءت أنفاسه تتسارع والعرق يتصبب منه .
124
محمود : أسكت ياطاهر هون على نفسك أنت مريض ...لو كانت فعلا هربت كما تقول فهى لا تستاهل غضبك لأنهن شهادة يفتخرن بها ...أحرمها من غضبك لوكانت فعلا هربت فهى لاتستحق حتى انفاسك عند الكلام ..ولكن حتى الأن نحن لم نتاكد من هذا الهروب ...الحمد لله وصل
عندما حضر البص كان المجهود النفسى فى النقاش قد أخذ مأخذه من طاهر وأعاد إليه الحمى ..رقد على الكنبة الأخيرة فى البص وتلفح بالملاية وأسلم نفسه لحركة البص الرتيبة على الطرق الزراعية الملتوية الملئة بالحفر والمطبات ..
عندما وصلا حلة الجعلى نزل طاهر وذهب محمود فى البص إلى مكتب الغيط ..
أخبر طاهر والده بانه مصاب بالتيفويد وإن العلاج الذى احضره معه سيأخذ وقتا طويلا ...ثم بصوت كسير سأل والده عن أخبار الزراعة وكيف تسير العمليات الزراعية وتاسف لأنه لايستيطيع المساعدة ..
قال حاج ياسين ابدا يا ابنى انت الخير والبركة والعمل ملحوق ..المهم أنت تشفى بالسلامة ..ونحن طوال عمرنا فى الشقاوة فلا تندم عليها ..على كل حال اطمئن هى موجود وستشبع منها ولكن يا ابنى أنا أتمنى لك مستقبل الدراسة فهى الأهم ...والمستقبل للعلم وناس العلم دائما ربحانين ..العلم هو الأبقى
حدق طاهر فى سقف الغرفة وهو يردد
مستقبل أين هو هذا المستقبل ...هذا الوالد البسيط يراهن على مستقبلى الذى اراه ملبدا بقيوم تحجب الرؤية ...الجسد المتهالك الذى تعصف به الحمى الأن يظن أن فيه مستقبلا ..جسدى لعبة الملاريا أين هو من المستقبل ...مسكين هذا الوالد ...مسكين فهو لايعلم اننى على وشك أن اسلم اسلحتى وأرحل خلف الافق إلى عالم ثانى ...عالم مجهول وغريب عنا ..عالم ارحب وأوسع من هذه الدنيا الدنيئة المليئة بالمخاطر والخديعة والدسائس والفتن ...عالم خالى من الحسد افة المجتمعات ...فى ضيافة رحمن كريم عالم خالى من مكابدة العيش والعلاج والمرض وحقن الكلوركين وكيس الجير الأبيض هذا ...عالم خالى من مسكة الطورية وحك الملود والباعوضة وملاح الويكاب والزبالة والارجل التى تسيل منها الدماء من الجفاف الشتاء
أحضرت له والدته شيئا يؤكل ولكنه لم ينظر إليه ..طلب كوب ماء وبلع حبتين من كيس الجير الأبيض ..من النافذة سمع بعض نساء القرية يسالن عن صحته ..تصل إذنه بعض عبارات السلام ومخاطر الحمى وصفق النيم الاخضر والكركدى والقرض والحميض واللالوب ..
خلطة بلدية يقال أنها تشفى من الملاريا طعم الخلطة مثل الحنظل ...كتلة من المرارة تفتت الكلى وتحرق الأعصاب هى إجتهادات مكتشفى الأدوية البلدية تظهر مع إنتشار مرض الملاريا هى أشياء لافائدة منها بل تؤخر الشفاء لأن مذاقها المر يهلك المعدة ويهدد الكلى بالأمراض ..والذى يزيد الإيمان بها هو عنصر المصادفة فقط ...قد يصاب أحدهم بالملاريا ويتناول الدواء المقرر وقبل أن يبداء الدواء مفعوله يشرب المريض شربة بلدية ...ويصادف أن يشفى المريض وعندها يقولون أن الذى شفاه هو الحنظل ...حياتنا عبارة عن حنظل ويريدون زيادة الجرعة
125
الا يعلم هؤلاء القوم أن علاج الملاريا ليس فى الحنظل إنما فى حقن الكلوركين ..وليس بالقرض وإنما بالقضاء على الناموس وردم البرك ...ألايعلمون أن العلاج ليس فى أكل صفق النيم والحنظل ولكن فى الأكل الجيد ..نعم العلاج فى الأكلات الوحبات الدسمة المغذية الشهية
صديقى المنقالى الظريف كان دائم الشكوى من المرض ..وخصوصا الملاريا ظل معه هاجس الملاريا برقم من أنه أخذ جرعة العلاج وبرقم ذلك كان يحس بالمرض وصلت به الدرجة بأن ذهب للطبيب وقال له أننى أحس بأننى مصاب بمرض فقدان المناعة (الايدز)
فى مرة من المرات اخذ من والده المبلغ المعين كى يشترى كورس الحقن ...ولكنه احس بنفسه جائع فأشترى بثمن الحقن وجبة دسمة فى مطعم راقى وشرب بعدها كوب معتبر من العصير المركز ..عندما خرج من المطعم أحس بأنه معافى من الملاريا فتأكد له بأنه لم يكن مريضا إنما كان جائعا .