الفصل الخامس والعشرون
السادسة صباحا
فى طرف القرية وفى المحطة الرئيسية التى يقف فيها بص حاج الجعلى الذى ينقل المسافرين إلى الخرطوم وفى طرف جدار حائط طويل كان هناك ثلاثة يجلسون فى مقابلة شمس ذلك الصباح الصيفى الحارق
الثلاثة هم طاهر ووالدته ومحمود الذى حضر قبل لحظات ...كانو ثلاثتهم فى إنتظار البص ..البص الوحيد الذى يذهب إلى الخرطوم ..وإذا فاتهم البص سيؤجل السفر إلى يوما أخر لذلك حضروا مبكرين كان طاهر يجلس على صخرة متكئا على الجدار ويده النحيلة على وجهه يحاول أن يحجب بها أشعة الشمس ويحس بدفء غريب والشمس تلسعه على وجهه بخيوطها الذهبية ..إحساس المصاب بالحمى يرتاح للسعة الشمس ويحس بالراحة تحتها ...لاتفسير لهذه الحالة ..ربما تكون درجة حرارة الجسم الداخلية فى حوجة لدرجة حرارية خارجية لتعادلها ..النار فى داخلنا ونحن فى شوق لزيادتها
الوالدة البسيطة الطيبة عيونها تحمل القلق والخوف من المجهول ...تجلس بجوار ابنها وتحمل (سبت) كبير جمعت فيه بعض الاشياء ..ملابس لها ولأبنها وكوبين وسيرمث ماء واخر للشاى طويل (برميلى) ذو قفل نحاسى أبيض وصرة فيها ملاليم وضعتها فى الكوز داخل السبت
جزب محمود السبت ووضع فيه لفافة صغيرة ..فيها غيار واحد ..طلب من الوالدة ورقة التحويلة ووقف بها جانبا وبداء يقراء (لعناية مستشفى المناطق الحارة – امدرمان) وبداء يردد
غذن سنسافر إلى أمدرمان ..أمدرمان التاريخ والأصالة ..أمدرمان الفن والثقافة
محمود كان مطمئنا للزيارة لانه تعود على السفر لوحده حتى الشمالية بالإضافة إلى أنه له بعض الأقارب فى أمدرمان ..
عندما وقف البص بجوارهم أختلطت الأصوات ...صوت المسافرين مع صوت الكمسارى الجهور ..سطح البص ممتلى بالجوالات ..ذرة ..فول مقشور لوبيا وصوت الكمسارى ينادى أرفع ياحاج يا اخ ضع الشنطة هناك أرفع العيش من الويكة ...اربط العتود من ارجله وضعه تحت الكرسى
ركب الثلاثة فى مقعد واحد ...أصر طاهر على الجلوس بجانب الشباك برقم إعتراض الوالدة خوفا عليه من برد الصباح ولكنه كان قد جلس ..والده كان يقف بجوار البص خلع شاله وناوله له من خلال النافذة ..أنصرف الوالد مخفيا عيونه بيده ..
ولكن كانت هناك عيون اخرى ترنو إليه بحزن عميق ...كانت عيون الصغيرة سعاد تقف بجوار الحائط ..ألتقت عيونها بعيون طاهر ولدهشته وجد الدمع يطفر من عيونها ..بلغ به التأثر حدا بعيدا ..تمالك أعصابه وقال لها اذهبى إلى البيت الوالد ذهب ..
ثم تذكر بصا أخر ...البص المربع
عندما وصل البص الترعة الرئيسية كان طاهر يمسح دمعة سالت رغما عنه بشال والده ..عندما قرب الشال من انفه شم فيه رائحة والده ..
رائحة التراب عرق الأرض ..رائحة الزرع المروى هى الزاد فى الرحلة المجهولة ..
الشوارع والترع داخل المشروع كثيرة المطبات ..كراسى البص الضيقة سجن صغير يشل الحركة ويبعث الضيق ...عند الميلان يحس بالغثيان
بعد برهة وصل البص شارع الاسفلت ..أختفت الميلانات وانتظمت الحركة
نظر من خلال النافذة ...متعة السفر الركوب بجوار النوافذ ..هذا هو طرف المشروع شجيرات متفرقة أراضى بكرة وما أكثر الاراضى العزراء البكرة فى هذا البلد الطيب وعزوف الذمن عن الإقتران بها ..شريط من القرى على جانبى شريط الأسفلت تبدوا فيها بعض الحياة ..لا أتذكر أخر مرة اركب فيها هذا البص قاصدا الخرطوم ..ولكن هاهى البلهارسيا تجعلنى اركبه اليوم ..
...ياشارع الضباب
..........مشيتك أنا
.................مرة بالهناء
.....................ومرة بالعزاب
أبيات عبد الحليم حافظ أعظم ضحية من ضحايا البلهارسيا
البلهارسيا قاتلة الاشياء الجميلة فينا ...قاتلة البراءة والذكاء والفطرة ...وقاتلة عبد الحليم حافظ
حليم وحده سيدخلها النار
النيل يرقد فى عظمته الابدية طويل ازرق متعرج الخضرة على ضفافه تمتد على طول الساحل رائحة الصباح تاتى مشبعة بهواء النيل عابرة مزارع البرسيم والبصل الواسعة رائحة دعاش تبعث الراحة فى الأوصال ...أنه النيل كما قيل رمز الخلود والأبدية منارة شامخة فى البلد الامين بكارة من نوع أخر كنز اخر لم نأخذ منه كفايتنا بعد
فى البعيد لاحت غابات الاسمنت ..مرة البص وسط بعض المبانى تتفاوت درجة جمالها ..واصل رحلته حتى وصل السوق ووقف فى الموقف الكبير
قادهم محمود إلى بص أخر ...أختفت الشحنات المتشابهة وحلت مكانه سحنات مختلفة ..شمالية وجنوبية وغربية وجنسيات أخرى ...مايميزها هو الصمت..هنا الكل صامت على عكس بص القرية الكثير الضجة والثرثرة ...هنا الكل شارد فى عالم يخصه لوحده ...نزلوا من البص وسارو ا بأرجلهم مسافة ليست بالقصيرة وصلوا بعدها غلى حى هادى الحركة الحركة فيه اقل من السوق و لافتة باهتة كتب عليها مستشفى المناطق الحارة
فى كنبة طويلة فى ساحة الإستقبال جلس طاهر مع والدته وإحساسه بأن المجهول على بعد خطوات يتملكه
134
وقف محمود فى العيادة أمام الطبيب الشاب ...نظر الطبيب إلى ورقة التحويلة ..علق عليها بسرعة وكتب يحول للمعمل للفحص
حملها محمود ورجع إليهم قاد طاهر إلى المعمل وأخذت منه العينات ...بعد قليل نادى الدكتور على طاهر يسن ..رقد طاهر على تربيزة الكشف ...هيكل تمتم الدكتور...سبحان الله وبداء يضع يده على مناطق الألم هنا ...لا ...هنا لا ....هنا نعم
خرج الطبيب من خلف الستارة وجلس على مكتبه بينما طاهر يلملم جلبابه ويتعثر فى حذائه
الطبيب : اين تسكن
طاهر : فى الجزيرة
الطبيب : منذ متى تشعر بهذا الألم
طاهر : من فترة طويلة ولكن فى الفترة الأخيرة إذداد بعض الشىء
الطبيب : حالتك فيها تطور مفاجىء هل كنت مصاب بمرض اخر
طاهر : نعم ملاريا وتيفويد
الطبيب : إذن فهذا هو السبب
ستبقى معنا لابد من عمل بعض صور موجات صوتية وصور أخرى هل معك احد ..نادى عليه محمود كان بجانب الباب وسمع كل شىء ...دخل ملهوفا وقال هل حدث شىء
الطبيب : هل أنت مرافق طاهر
محمود :نعم
الطبيب أذهب به إلى عنبر 9 لدينا بعض الإجراءات
قام طاهر وذهب مع محمود ...وقبل وصوله الباب ألتفت إلى الطبيب ونظر إليه بحيرة بادله الطبيب بنظرة أكثر حيرة منها خرج الأثنان وفى الباب قابلتهم الوالدة بنظرة أكثر حيرة منهم جميعا
أتجه الثلاثة ناحية العنبر ...أستقبلتهم روائح مختلفة خليط من روائح الدماء والديتول شىء يدعو للقرف القريب فى روائح المستشفيات أنك فى البداية تصدم بها ولكن بالتدريج تصبح شيئا عاديا ..أنها العادة والتعود تجول محمود بين السراير الصفراء وهو يقراء فى النمر ..ثم وقف فى نمرة بعينها ثم قال لطاهر ..هنا جلس طاهر على طرف السرير بينما كانت أمه تبحث عن مكان تضع فيه امتعته المتواضعة ..كان طاهر يتفحص جيرانه المرضى ...هياكل عظمية جف منها الدم واللحم وكروش منتفخة من الإستسقاء ..ياألهى عنبر حوامل
هؤلاء هم ضحايا البلهارسيا ...الإستسقاء ونزيف الدم الذى يخرج كالشلال دفعة واحدة ..أصيب طاهر بالذهول والخوف ...وبداء يرتعد ...خوف رهيب وبداء يرتعد هل هذه هى النهاية نزيف الدم وكرش مثل كرش الحامل بداء يحس بالحمى وارتفعت درجة حرارته بصورة مذهلة ..أخرج محمود الملاية وغطاهو بها ..ثم جلس بجواره ممسكا بأرجله التى ترتجف بشدة .
فى المساء عندما حضر الدكتور لعمل الموجات الصوتية كان طاهر فى عالم اخر ...الحمى فعلت فعلها وبداء وبداء طاهر يتكلم اى كلام ...بعد النظر والمعاينة قال الدكتور لمحمود يبدوا ان الحمى طارت له فى رأسه
أن عقله فى خطر
كلام الطير فى الباقير
الوالدة تبكى بحرقة
والحيرة تستبد بمحمود ...هل يبكى ...أم أنها لحظات الصمود ..