الفصل الواحد والعشرون
عندما وصلا إلى المنزل وجدا الوالد الحاج ياسين يقف خارج الدار فى إنتظارهم ...لأول مرة يرى محمود حاج يسين الراجل الصبور فى حالة قلق ...الرجل الصامت الحكيم بأن الألم على عيونه الذكية
دخل طاهر مع والده الغرفة الامامية بينما دخل محمود المطبخ مع الوالدة وبداء يثرثر معها ..
نادى محمود سعاد وقال لها تعالى نعمل كسرة بى موية ...أحضرت له سعاد الطماطم والبصل والزيت والشطة الخضراء ...قال لسعاد اخوك خشموا مسيخ عايز شطة كثيرة ...ساعدينى بدق الشطة ..
حمل محمود تلك الوجبة الدسمة وذهب إلى طاهر ووالده فى الغرفة الأمامية ...أكلو جميعا ولاحظ محمود أن طاهر اكله بداء يتحسن ...ساعد على ذلك الشطة ...هناك مودة غريبة مابين الشطة والملاريا ...نار فى نار والطيور على أشكالها تقع ..
جلس محمود قليلا وعندما أحس بالتحسن فى صحة طاهر استأذن فى الإنصراف واعدا إياهم بالحضور فى المساء ..ودعهم وخرج ونظرات الإمتنان تحيط به من الجميع الوالد وطاهر والوالدة التى سمعها تقول الله يديك العافية يامحمود ...
قبل أن يغادر حلة الجعلى كان محمود حريصا على الذهاب للمساعد الطبى وتذكيره بمواعيد الحقنة ...أخبره وأتجه صوب مكتب الغيط ....فى الطريق كان فى ذهنه موضوع واحد هو الذهاب إلى سلمى وتسوية الموضوع بسرعة وإرجاع المياه إلى مجاريها قبل فوات الأوان ...
عندما خرج محمود وجد طاهر نفسه وحيدا مع والده الذى دخل محارة الصمت ..
حدق طاهر فى سقف الغرفة وبداء فى إسترجاع شريط الذكريات
هاهو العام ينتهى عام حافل بالنشاط والحيوية ...حافل بالمواقف والإيجابيات ولكن هاهو ينتهى هذه النهاية المؤسفة ..هل كان فى الإمكان تحاشى ماحدث ...لاشك أن ماحدث لامبرر لحدوثه ..إذاكانت النوايا طيبة والنفوس سليمة ...ولكن هل كان هناك شك فى طيبة نوايانا لقد كان الوداد أكبر من التوافه ...ترى ماذا حدث هل هناك خلل لم نكن ندرى به ونحن نقرق فى النشوة حتى اتى هذا الحادث البسيط وفجر الفتيل ...من جانبى لم افكر فى أذيتها بتصرف ولو بكلمة جارحة حتى الفكرة لم تخطر ببالى ...فكيف تؤذى النفس صاحبها فهى مثل نفسى بل أحيانا أفضلها على نفسى وبالمقابل لا أتصور أن تضمر لى ذرة سؤ..
لا علم لنا بسراير القلوب ولكن قلب المؤمن دليله ...فكل أفعالها وأقوالها وتصرفاتها وهمسها ونجواها كانت تؤكد أنها تحبنى حب فوق الشبهات ...أنا لم اكن واهم ...الوهم يتصور اشياء قد تحدث وقد لاتحدث ولكنى لمست الحقائق بالقول وبالفعل ...فلنستبعد كلام العيون والإيماءة ولنتعامل مع الحقائق المجردة قطعا لم اكن واهم .....إذن اين الخلل وما الذى أصاب الأرواح التى ظلت تحرس هذا الحب طوال الفترة السابقة لقد كانت الروح تؤكد حبها بصدق مثلا عندما أتخيل أنها ستزورنى كانت تزورنى ويصدق رادار الروح فى تأكيد زيارتها ..وكذلك عندما اتوقع أنها ستقول شيئا كانت تفعل ...من أخبرنى بذلك أنها الروح ...كل هذه الأشياء كانت تؤكد صدق العاطف ولكن برقم ذلك حدث ماحدث ..
هل انا مخطى ....هل انا مخطى عندما هاجمتنى فى الحديث وخانتنى العبارات ...لا أظن ربما المفاجاءة هى التى جعلت ردى قاسيا ...هل كان واجبا ان اصمت على الغهانة لأربح الحب
لو أنى صمت على الإهانة لا أعتقد أن سلمى سوف تغفر لى ذلك ..
المراة قد تهين الرجل ولكنها لاتقبل منه أن يتقبل الإهانة ..
إذن اين الخلل واين الحلل
هناك خاطر وحيد يفسر هذه الحكاية ...لكنه خاطر غزر وجبان وهو ..
وهو أنها بعد كل هذه السنين ظل يلازمها إحساس بأنها مدانة لى أو أن هناك دين على رقبتها وهو أننى بزلت معها مجهودا جبارا فى إرجاع مادة الرياضيات إلى رأسها الجميل بعدما هربت منه منذ سنين ...ربما فى عقلها الباطن ظل يلازمها إحساس بأننى أعدتها طالبة ناجحة فى الرياضيات وربما فى كل المواد بالمراجعة والمتابعة وامثال هؤلاء لايحبون أن يكونوا مدانون لأحد مهما كانت درجته والدليل على ذلك انها عندما ذهبت فى إجازة الصيف وأحست بسلامة موقفها أرادت تسوية الموضوع ببنطلون جنز ...البنطلون المشكلة ...
بالطبع هو ثمن بخس رخيص إذاكانت المجهودات البدنية تشترى بالفلوس فهل يشترى الإحساس بالفلوس ...لا أظن لكن ما أصابها بخيبة الأمل هو عدم ترحيبى بالهدية لذلك ظل لديها إحساس بأنها مازالت مدانة لى ...وظل ذلك حبيس فى اللاشعور ..وعندما وجد الفرصة فى ذلك اليوم أنطلق كالمارد وخرج الموقف من يدها
الشىء الثانى أنها دائما تعطينى إحساس بأن حبى لها مسئولية ...وأن هذه المسئولية بداءت تخاف منها أنها أوهام ...فى أوهام وهم
ولكن للأسف قد تفسر هذه الأوهام شيئا
يذكرنى هذا بالحالة النفسية بين البائع والمشترى عندما يحس المشترى بأن السلعة ضرورية ولايستيطيع دفع الثمن قد يبخس البضاعة وقد تنتهى المساومة بالسباب بين البائع والمشترى عندما يكون فى نيته عدم الرجوع مرة اخرى للمحل ...الله سبحانه وتعالى نهى عن تبخيس البضاعة فكيف حال المشاعر انبل مافى الوجود ..
أحس طاهر بأرتفاع درجة الحرارة فشد ملاية السرير ...ووضع يده على رأسه كانه يأمره بعدم التفكير تلك هى خترفة الملاريا ...التفكير الدائم ..فى أيام الملاريا تزداد حدة التفكير والعقل يعمل فيها كالطاحونة
تنحنح الوالد
اراد ان يقول له شيئا لكن دخول المساعد الطبى اوقف حديثه
رجل ضخم وشارب كث مثل شارب الجزارين ...يا إلهى أين هى ملائكة الرحمة أتجه نحو طاهر وبداء كفه الضخم على خده ...فتح زراير القميص ووضع على الصدر سماعة طبية يعلو الصداء قاعدتها النحاسية ...نظر فى عينيه بعدما شد الجفن للأسفل جلس على السرير بعدما حقنه بحقنة الملاريا
- أخذ الجرعات المقررة لعلاج الملاريا وبرقم ذلك الحمى مازالت موجودة
- والعمل يادكتور
- أنا ارى ضرورة إجراء فحوصات طبيبة
- فقط للإطمئنان
- حاضر يادكتور
وخرج الدكتور الذى يشبه الجزار وشاربه الضخم يسبقه
قال حاج يسين لأبنه قبل ان يقوم ..عندما يحضر محمود أخبره كى يذهب معك غدا لإجراء فحوصات ثم هب واقفا وهو يتمتم ربنا يشفيك يا ابنى
ظل طاهر وحيدا يحدق فى سقف الغرفة والشريط يدور فى رأسه ...يدور ويدور وصداع مؤلم ويقفو قليلا ثم يصحو ...حقنة الملاريا تترك طعم قريب على الفم ...طعم المر يمسخ الأكل ويسد النفس والتفكير المستمر مع الصداع المستمر والشعور بالوحدة ...
أستمر على هذه الحالة حتى المساء ولم يشعر بالفرحة إلا عندما سمع صوت محمود يتكلم مع التومات ..أعتاد محمود عند عودته من المكتب أن يحمل معه ثمار النبق واللالوب يجمعه من أشجار مكتب الغيط ويبدو ان هذا الصياح صياح تقسيم النبق ..وواضح ان سعدية تريد أن تكون الفائزة بعد قليل دخل عليه محمود صائحا كيف الحال يابطل
- طاهر الحمد لله
- محمود : هل أخذت الحقنة وماذا قال السيد الدكتور
- أخذت الحقنة لكن السيد الدكتور يرى ضرور إجراء فحص طبى
- محمود : ليه ومش بطال ...المهم أنت كويس
- طاهر انا بخير لكن هل سلمى بخير
- قال محمود : سلمى سافرت الخرطوم منذ يوم أمس
- طاهر غذن لقد هربت
- محمود : ولماذا تقول هربت
- طاهر : اه يامحمود لقد هربت سلمى
- 122