الفصل التاسع والعشرون
وأصبح طاهر استاذا فى مدرسة القرية
ولأول مرة يكتشف أن السلم التعليمى جعل الإبتدائى ثمانية سنوات وأسموه مرحلة الأساس
أصبح يدرس الرياضيات لعدة فصول ...وبداء العمل بهمة ونشاط
مدرسة حاج الجعلى لمرحلة الاساس المختلطة ...مجموعة المعلمين ايضا مختلطة أولاد وبنات ولكن كان واضحا أن هناك نقصا حادا فى عدد المعلمين ..قياسا مع الثمانية فصول ..قالوا أن الأولاد هجروا مهنة التدريس بعدما أصبح المرتب دون طموحهم ..
أيام قليلة وأصبح طاهر شخصية مهمه فى المدرسة وعرف بإحترامه للجميع وبنشاطه الزايد وبشخصيته الحلوة فى معاملة التلاميذ ..ولكن كان العمل شاقا لذلك كان كثيرا مايطلبون منه أن يريح نفسه ...خصوصا السيد المدير الذى كان مهتما به بصورة ملحوظة ..كأنه يراهن عليه ..
ولكنه كان لايجد الراحة إلا فى العمل ...كان كانه يريد إسترجاع الأيام التى سرقها الذمن
وبداء يهتم بقضايا الشباب ...ففكر فى إنشاء رابطة شباب القرية برقم إحساسه بأن شبابه كاد أن يولى إلا إنه تمسك به ..وأصبح العمل العام من أهم همومه لذلك أهتم بالعمل التطوعى وشكل مع سعدية أخته ثنائى خطير فى العمل الشبابى واصبح اسمهم كل لسان ..أولاد حاج يسين عملوا كذا..أولا د حاج يسين عملوا كذا...أيام صحية ..حملات نظافة ..صحة البيئة والتطعيم ..وحرب البعوض ..
من أهم إنجازات طاهر فى حياته حرب البعوض
وقف ذات فى الطابور وقال للتلاميذ ..طبعا أنتم عارفين أن الملاريا منتشرة هذه الايام ولكى نقضى عليها يجب القضاء على البعوض ولذا على كل تلميذ يجب قتل عشرون ناموسة يوميا
أعتبرها البعض مزحة ..وأخرين قالوا عاوده جنونه القديم ..ولكنه اراد أن يفعل شيئا ضد هذا البلاء المستحكم المسمى بالملاريا ..أحبه التلاميذ لذلك عاونه فى حربه ضد الناموس برقم من ان التجربة صاحبها الكثير من الطرائف مثل ذلك التلميذ الذى أراد أن يصطاد ناموسة فكسر أوانى والدته ..برقم ذلك إلا أنها ساهمت فى الحد من الناموس ثم ذهابه إلى مشروع النيل الازرق الصحى فى حرب جديدة ضد البلهارسيا فجلب الاقراص وقام بتوزيعها بواسطة العملين فى المشروع ..
أكثر مايؤلمه فى حياته أن يجد طفلا لايتعدى عمره الخامسة ويتبول دما أحمر ..أستمر فى نشاطه
واهله فرحين به ..وسعدية اشد فرحا ..تهتم به وترتب له ملابسه وتنظر له مزهوة به
وفى ذات يوم
جاءت سعدية تحمل بنطلون جنز وقالت لطاهر لماذا لاتريد ان تلبس هذا البنطاون ..هذا البنطلون موجود مع الملابس منذ ذمن طويل والغريب ان مازال بحالة جيدة ..واظنه مازال فى مقاسك برقم الفترة الطويلة هذه ..
نظر طاهر فى صمت إلى البنطلون ...لاحت سحابة من الضيق على جبينه الواسع
سعدية : من اين هذا البنطلون ولماذا لاتريد أن تلبسه
طاهر : يجب أن تمزقى هذا البنطلون ..أو أحرقيه بالنار
سعدية : أنه سيساعدك فى غيار العمل ..وعلى فكرة نوع جميل ..أصلى وجيد
طاهر : لا اؤد رؤيته أن منظره يضايقنى
سعدية : كلمنى ياطاهر من اين هذا البنطلون
طاهر : هدية ..
سعدية : ممن هذه الهدية
طاهر : من حفيدة كاهن المطر ..يجب ان يباد
سعدية : أه فهمت
رددت الاسم الغريب فى ذهنها ..حفيدة كاهن المطر ...حفيدة كاهن المطر ..اظن اننى سمعت هذا الأسم ذات يوم ولكن ..أين ..أين ..لاشك أن هذا الاسم يشكل علامة فى حياة طاهر ..ولكن البنطلون جميل لن ابيده أخذت البنطلون وخبأته فى دولابها ولم تعد تأتى بسيرته من جديد ..وأدركت بأن لهذا البنطلون سر كبير ولكنها لاتود معرفته لأن ذكراه تجلب الكدر لطاهر وهى لا تريد له الكدر ..أكتفت بصيانة ملابسه القديمة وترتيبها
فى ذلك اليوم أهتمت به اكثر ..خوفا عليه من الإنتكاسة وعودة الأيام السود ..كانت بجانبه مثل الكنز الذى ضاع من صاحبه ذات يوم ويخاف عليه من الضياع مرة اخرى لذلك يبزل مجهودا مضاعفا فى الحفاظ عليه ..وطاهر فعلا كنز
أخلاقه كنز ...عطاءه كنز ..حضورة كنز ..فى المدرسة شعلة نشاط لاتنطفى يخرج من فصل ليدخل فى فصلا اخر وبداءت المدرسة فى عهده تعرف اشياء جديدة ..مثل النشاط المسرحى والجمعيات الادبية والفلاحة والتغذية والتطريز والرياضة وصحة البيئة ..
المدير كان مسرورا به ..مسرورا به لانه راهن عليه ..أعترض على تعينه مجلس الأباء وقالوا انه لايصلح للتدريس ..ولكن المدير اصر عليه ..ونجح طاهر فى التجربة لذلك كان المدير مسرورا به لأنه لم يخيب ظنه ..والإحترام متبادل بينهم مثل الأبن وأبيه ..طاهر كان لايعصى له امرا لأنه اعاده للدنيا ..
وفى ذات يوم
طلب منه المدير أن يدرس الحساب لتلاميذ السنة الأولى ..وبرقم أنه كان كثير الدخول إلى فصل سنة أولى إلا ان اليوم يرى شيئا جديدا
شيئا اصابه بالحيرة والقلق
كانت هناك تلميذة جديدة ..أو علها لم تكن جديدة ولكن لأول مرة يراها ذلك اليوم ..أحس بالرعدة تسرى فى أوصاله ..لقد كانت شيئا فريدا
كانت صبية صغيرة وعمرها حوالى الستة سنوات ..قوامها معتدل ...لونها ابيض مشري بحمرة خفيفة ..شعرها أسود طويل مضفر فى جدائل طويلة مثل ذيل الحصان ..بل أطول منه
وكانت صامتة وهى تجلس بين زميلاتها ...كانت شيئا جديدا لا يشبه الوجوه الكالحة التى أعتاد عليها ...دماء الحياة تسرى فيها اكثر صفاءا ..نظرات عيونها لها بريق عجيب ...هل هذه طفلة أم أمراة كاملة التكوين ..تلبس ملابس راقية ..أمامها دفتر أنيق ..من اين ياترى هذه الحورية الصغيرة ..لم اراها من قبل لافى القرية ولا فى المدرسة ربما تكون زائرة ..
بداء طاهر الدرس وهو يتحاشى النظر فى عيون تلك الطفلة ..
العيون ..
أحس بأنه ألتقى بهذه العيون ذات يوم ..ولكن أين ومتى ..هو لايدرى ..هى طفلة فأين سيكون ألتقى بها ..اللهم إلا فى الحلم ..كان خياله مشغولا بها ...مشغولا بذلك البريق العجيب ..هذه العيون
وبداء يمر مابين التلاميذ ليتفقد الواجب اليومى وسير التلاميذ فى حل المسائل
عندما احنى راسى ليرى ماذا كتبت الحورية الصغيرة لم يرى شيئا ولكنه شم شيئا ..شيئا جديدا ..رائحة عطر جديدة ..رائحة جزابة وخيل إليه أنه أشتم هذه الرائحة ذات يوم ...نعم هذه الرائحة مألوفة لديه ..بل والعيون والقوام كل هذا رأه ذات يوم والبريق فى العيون ..وغمازة ..
طاهر : أسمك أيه ياشاطرة
- أنا أسمى رهام
- أنتى تلميذة معانا هنا
- لا أنا ضيفة مع بنت عمتى
- طاهر : أنتى رهام بنت مين
- أسمى رهام البدوى
- طاهر : ماما أسمها مين
- ماما أسمها سلمى ..سلمى التجانى
بكل بساطة نطقت الاسم ...أحس طاهر بالارض تدور به ..واحس بوجه الصغيرة دائرة على الافق ...أسند يديه على الدرج وغابت الدنيا عن عينيه ..ولم يعد يرى الفصل ولم يعد يرى التلاميذ
تماسك قليلا وسار نحو النافذة التى تجاور السبورة وبداء ينظر للحقول الممتدة ..نظر هناك فى البعيد ..عاد الماضى ..
عاد الماضى بكل جبروته وقسوته ..عاد دفعة واحدة فى عينيى الصغيرة الوديعة التى بداءت تنظر إليه فى دهشة وخوف ...سبحان الله ..نفس العيون ...نفس الانف الوجه الغمازة الشعر
صورة مصغرة من حفيدة كاهن المطر ...حتى الرائحة ..والرائحة لايعنى بها العطر ..ولكن رائحة البشر ..هناك حقيقة علمية بأن لكل إنسان رائحة خاصة به ..تخرج منه ..تتنفسها مسامه ...سبحان الله
نفس الدهشة ...نفس العيون المعبرة التى كانت تلمع من روح حفيدة كاهن المطر
أحس بالغضب ...نادى عليها
تعالى يارهام من اليوم لاتأتى إلى المدرسة
وبكل بساطة وبراءة تناولت الصغيرة دفترها الأنيق وخرجت ..
ولم يعد مزاجه قابلا للعمل
ذهب إلى المكتب ووضع كراسة التحضير وكتاب المقرر على التربيزة وخرج من المدرسة .
خرج وهو لايدرى هل سيعود ...أم لا